"الأرشيف العثماني": تاريخ لم يُدرس بعد

16 مايو 2018
(إسطنبول، 1869، من مجموعة الفوتوغرافي الفرنسي فيليكس بونفيس)
+ الخط -

لا يتوقّف الجدل حول تاريخ الدولة العثمانية وسياساتها في العالم العربي، بالنظر إلى طول فترة حكمها التي تتجاوز الأربعة قرون، والتي يصعب اختزالها في القرن التاسع عشر الذي شهدت فيه تراجعاً بشكل تدريجي وصولاً إلى انهيارها في 1924، وتتعلق الكثير من السجالات بمسألة بيع الأراضي في فلسطين المحتلة منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أو ممارسات جمعية الاتحاد والترقي ضد الناشطين العرب بعد انقلابها عام 1908.

في محاضرة بعنوان "الأرشيف العثماني: أهميته وفائدته في كتابة التاريخ" نظّمتها "المكتبة الوطنية" في عمّان صباح أول من أمس الإثنين، حاول الأكاديمي التركي جنكيز إيروغلو التركيز على إيجابيات التاريخ المشترك بين الأمتين الجارتين إلا أنه قدّم ردوداً على ما اعتبره نقداً "لا أساس علمياً" له من قبل بعض الحاضرين.

وبدا المحاضر حازماً حين أشار إلى أن "الباحثين العرب هم الأقلّ تعلماً للغة الدولة العثمانية في دراستهم تلك المرحلة، وأن كثيراً ممن يعرفونها ويستطيع الوصول إلى الوثائق التركية القديمة يفضّلون إعادة إنتاج آرائهم المسبقة حولها"، ما اعتبر رداً غير مباشر على مقال نُشر في صحيفة محلية منذ يومين يعود صاحبه إلى كتاب بعنوان "دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين"، حيث رأى المحاضر أن هناك إصراراً على تغيير الحقائق التاريخية بخصوص السلطان الذي أُخرج من الحكم بسبب مواقفه المعادية للصهيونية.

من جهتها، أعلنت الجهة المضيفة أنها ستحصل قريباً على خمسة آلاف وثيقة من الأرشيف العثماني تخصّ الأردن، لكن ما يحول دون الاستفادة الحالية منها عدم وجود باحثين ملمّين باللغة التركية القديمة، حيث سيتمّ العمل على وضع ملخّصات لكلّ وثيقة في الفترة الحالية.

"الوثائق المحفوظة في مؤسسات الأرشيف التركي تبيّن أن الدولة العثمانية في إدارتها البلاد العربية كانت تتحرّك بمنطق الخدمة وليس بمفهوم الاستعمار"؛ الخلاصة التي وضعها إيروغلو لافتاً إلى أن "العامل الأساسي في تكوين منطق الخدمة متولّد عن احتضان البلاد العربية للأماكن المقدسة وكون سكّانها ذوي أغلبية إسلامية".

بعيداً عن السجال حول الماضي والذي لا يمكن فصله عن الواقع السياسي للمنطقة في اللحظة الراهنة، استهلّ الباحث المتخصّص في تاريخ بلاد الشام في العهد العثماني ورقته، بالقول إنه "قد جرى تصنيف أكثر من مئة مليون وثيقة داخل مؤسسات الأرشيف التركية، ومن المتوقع أن ينتهي بأرشفة ما تبقى الذي استمر عشرات السنين خلال الأعوام الخمسة أو الستّة المقبلة، وهو ما يمكن أن يساهم في بناء الأرشيف الوطني لعدد من الدول التي كانت عثمانية يوماً".

وأوضح أن هذه السجلات تعني 40 بلداً كانت تابعة للأستانة، وتعدّ أكبر مصدر تاريخي لها - وللبلدان العربية بشكل خاص - وهي تنقسم إلى جزأين؛ الأول يسمى "الدفاتر"، ويقصد به السجلات المتسلسلة التي دوّنت فيها القرارات المتخذة في البيروقراطية العثمانية بدائرتي الديوان والمالية، للموضوعات التي صدر بشأنها قرار، ويعود أقدمها إلى عام 835هـ/1432م وهي الدفاتر الخاصة بالأراضي والتمليكات.

أما الثاني فيُطلق عليه "الوثائق"، وتضمّ وثائق الديوان الهمايوني (رئاسة الوزراء) والباب العالي وقصر يلدز، والنظارات والولايات والمفتشيات العامة والدوائر الحكومية الكبيرة، وغيرها من التصنيفات ذات العلاقة بالعسكرية والاتصالات وشورى الدولة وغيرها.

توقّف الباحث عند أبرز الدفاتر في الأرشيف العثماني والذي كان يسمى "خزينة الأوراق"؛ وعلى رأسها دفتر "المهمة" الذي سجّلت فيه أهم القرارات السياسة والعسكرية والاجتماعية المتعلّقة بالمسائل الداخلية والخارجية، والتي كان يتمّ تناولها في اجتماعات الديوان والهمايوني وتشتمل على 419 دفتراً، و"الطابو والتحرير" والذي اهتم بإحصاء السكّان ومصادر دخلهم في كل سنجق من سناجق الدولة وكان يُجدّد كل بضع سنوات، و"الشكاوى" بما يتضمّنه من شكاوى ضد مسؤولي الإدارة والعسكر وهجمات قطّاع الطرق وقرارات المحاكم وغيرها.

إلى جانب دفتر "نامه همايون" وضمّ المراسلات الجارية بين السلاطين العثمانيين وحكّام المناطق الممتازة التابعة لهم (شريف مكة وخان القرم وملك أردل وويوودا أفلاق وخان جورجيا وداغستان وخديوي مصر)، و"الأحكام" المخصص لتدوين فرمانات الديوان الهمايوني، و"الكنائس" الذي يحتوي فرمانات بناء وترميم وتوسيع الأديرة والمعابد والمقابر والمدارس ودور الأيتام لغير المسلمين.

وعرّج إيروغلو على دفاتر "العينيات" المشتمل على المذكرات والتحريرات الموجّهة من الديوان إلى مختلف مؤسسات الدولة والولايات، و"الواردات والصادرات من وإلى الولايات" الذي تمّ استحداثه عام 1864 بعد الإصلاحات الإدارية، و"قلم محاسبة الحرمين" ويتعلّق بأوقاف المسجد الحرام في مكة والنبوي في المدينة والمخصصات المالية فيها ونظام التجار وأرباب الصنائع التابع لها.

أما دفاتر "الصرّة"، بحسب الباحث، فكان يسجّل فيها ما يرسله السلاطين العثمانيين من هدايا ونقود وذهب إلى الحرمين الشريفين حيث توزّع على الرعية من أغنياء وفقراء، وهو تقليد متبع منذ أيام العباسيين والأمويين، و"قلم الساليانه" وقد خصّص لتسجيل مرتبات موظفي الدولة، و"رئاسة مجلس والا" الذي كان يوثّق إعداد القوانين الجديدة التي اقتضتها حالة الإصلاح ومحاكمة الموظفين.

ومن الدفاتر المستحدثة؛ "نظارة الصحية" واحتوى على التقارير المتعلقة بشؤون الصحة وحل الخلافات الناشئة عن استيراد أو تصنيع مختلف الأغذية والأدوية، و"الإرادة" وفيه تسجيل للقرارات في مسائل خاصة مثل توجيه النياشين وعطاء الامتيازات وتعيين موظفي الدرجات العليا والترقيات"، و"أوراق يلدز" ويضم الوثائق التي كانت موجودة في قصر يلدز الذي سكنه السلطان عبد الحميد.

بين مكة وإسطنبول
عرَض المحاضر (الصورة) بعض الصور لمقرّ الأرشيف العثماني الحالي وقاعاته وأخرى للمبنى القديم، وجزءاً من مخطوطاته ووثائقه من بينها تلك التي تعرض التوسّعات في الحرم المكّي التي أُجريت له في تلك الفترة، والجسر المعلّق في إسطنبول الذي كان مخططاً إقامته أثناء حكم عبد الحميد الثاني لكنه أنجز في منتصف القرن الماضي، وخرائط لبلاد الشام، وعدد من الدفاتر وما احتوته من قرارات ومراسلات أشار إليها في ورقته.

دلالات
المساهمون