"الآلام المبرحة" لميروسلاف تيرزيتش: جُلجلة أمّهات وأبناء

17 ابريل 2019
آلام مبرحة لأمهات مكافحات (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
عن واقعة جرت أحداثها قبل عقود، ولا تزال جروحها النازفة مفتوحة حتى الآن، في صربيا وإسبانيا وأميركا اللاتينية، أنجز الصربي ميروسلاف تيرزيتش (1969) "الآلام المُبرحة"، ثاني أفلامه الروائية الطويلة، المُشارك في "بانوراما" الدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، تناول فيه مجدّدًا قضية شائكة، مرتبطة بالأعوام العصيبة للحرب التي شهدها بلده. هذه المرة، القضية كامنةٌ في سرقة الأطفال وبيعهم زمن الحرب.

أقدم صراع عرفته البشرية كان بين الخير والشر. ورغم كلّ ما قيل وكتب عنه، لم يلتفت كثيرون إلى أنّ تكرار أفعال الشر يصل بها إلى حدّ التطابق، بصرف النظر عن الزمان والمكان. الأمر ينسحب على واقعة يرصدها "الآلام المبرحة"، وأخرى تجري في إسبانيا. بطلتها كريستينا موراشا: "طلبوا مني الكفّ عن البكاء. قالوا إنّ لديّ ابنة في شهرها الـ15 تحتاج إليَّ، وإنّي شابة أستطيع إنجاب أطفال آخرين". هذا ما قالته بعدما أبلغها "مركز الأمومة" عام 1984 أنّ وليدتها توفّيت، لكنها لم تر جثمانها أو قبرها.

تصريحها هذا قالته أمام القضاء الإسبانيّ، إذْ تقدّمت بدعوى قضائية بسبب اختطاف ابنها. كريستينا موراشا إحدى آلاف النساء اللواتي طاولهنّ مُصابٌ أليم كهذا، بدأ زمن حكم فرانكو (1936 ـ 1975)، وامتدّ حتى نهاية ثمانينيات القرن الـ20 ومطلع تسعينياته. ورغم أن القضاء الإسباني أصدر حكمه أول مرة في قضايا كهذه منذ أعوام، إلا أنّه لم يتمّ تنفيذه، بسبب انقضاء المدّة القانونية. الحالة المتكرّرة للشرّ المحض متطابقة مع حالة مشابهة لها في الأرجنتين، زمن الديكتاتورية العسكرية (1976 ـ 1983).

في ختام "الآلام المبرحة"، يُشار إلى أنّ 500 أسرة صربية لا تزال تبحث عن أطفالها المفقودين، وأنّ القضاء ـ حتى الانتهاء من تحقيق الفيلم ـ لم يبتّ بأي قضية، ولم يكشف حقيقة واحدة. الأكثر إثارة، أن تصريح كريستينا موراشا ينطبق تمامًا مع ما حدث للخياطة آنّا (سنيزانا بوغدانوفيتش). كأن كاتبة السيناريو إلما تتاراتيتش تعرف الإسبانية كريستينا موراشا معرفة شخصية. لكن الأمر متأتٍ من همّ إنساني مشترك، ناتج من التجربة نفسها.

الاختلاف البارز بين حدثي إسبانيا والأرجنتين، وما يقدّمه الفيلم، كامنٌ في أنّ السياسة والدين ليسا سببين رئيسيين لحدث صربيا. صحيح أن "الآلام المبرحة" يُدين الحرب والسلوكات الحمقاء والمختلّة للبشر أثناءها. لكنه في الوقت نفسه، يبتعد عن كلّ تلميح للدين والكنيسة. ما حدث في إسبانيا والأرجنتين تعرفه الكنيسة، وأحيانًا حدث بإشرافها. في صربيا، كما قال الفيلم، الأمر مجرّد شبكة فساد تضمّ أطباء وموظّفين ورجال شرطة وسياسيين.

الطمع ومافيا الاتجار بالبشر أساس حالات صربيا، إذًا الموضوع مادي بحت. في إسبانيا، كان يحدث هذا ضدّ الأمهات الثوريات والشيوعيات، لمنع انتقال "جرثومة" الشيوعية إلى الأبناء. الأطفال يُوزّعون على مقرّبين من السلطة ورجال الحزب. في صربيا، يُلمّح الفيلم بتورّط أجهزة الأمن ورجال صنع القرار. وإلّا، لما تمّ تهديد آنا والتهجّم عليها وضربها، ثم إجبارها، بعد اكتشافها الحقيقة، على التوقيع على ورقة تفيد بأنها وهبت الطفل للتبنّي بإرادتها.

الوحدة الشديدة تُلازم أسرة آنّا، المكوّنة من زوجها يوفان (ماركو باكوفيتش)، البائس والمُحطّم والمُستسلم لقدره، والذي تمرّ أيامه وهو يحاول كتم حزنه الدفين، وإظهار نفسه متماسكًا؛ وإيفانا (جوفانا ستويلكوفيتش) ابنتهما المُراهقة، التي تُعامِل والدتها بمنتهى الازدراء، فالتواصل بينهما شبه منعدم. تفتقد إيفانا حنان أمّها وحبّها، فالأمّ غائبة كليًا عن المنزل والحياة، لتفكيرها الدائم بابنها. تثق ثقة كاملة بأنه لم يمت. غيرة إيفانا مكتومة أيضًا. تبحث عن بذرة حب خارج المنزل، لكنها لا توفَّق دائمًا. ظاهريًا، تبدو العائلة مثالية جدًا، لا صعوبات تواجهها. لكن داخل المنزل يكشف سريعًا حجم الحزن المُقيم فيه وفي ساكنيه، فهو حاضرٌ منذ 18 عامًا، أي منذ أن قيل لآنّا موت ابنها.

آنّا (منتصف الخمسينيات) ليست جميلة. لكن وجهها يشعّ جاذبية ساحرة، ربما بسبب عنادها وعزمها وعدم استسلامها، وهذا نابعٌ من شخصيتها القوية. لم تضحك آنّا أبدًا. حتى منتصف الفيلم، استدرج السيناريو، بمساعدة وجهها الأخّاذ وقسماته الحادّة، إلى متابعة سرّها، والتكهّن بما وراء حزنها وتصرّفاتها الغامضة، كأن تضع "كعكة عيد الميلاد" على الطاولة، فتقوم الابنة شبه الساخرة، حزينة ومتذمّرة، بينما يأكل الأب مُكرهًا إرضاءً لزوجته. لكن عيد ميلاد من؟ في البداية، لن يُعرف الجواب، لكنه يتّضح لاحقًا أنه عيد ميلاد الابن المفقود.

غموض أول ينجلي، فيطرح السيناريو غموضًا ثانيًا: هل آنّا محقّة فعلاً؟ هل هي متوازنة نفسيًا وذهنيًا؟ من أين لها هذا اليقين؟ أسئلة تُطرح، لكن الإجابة عليها غائبة فترة طويلة. لمسات فنية رائعة تُزيد الأمر غموضًا: التمثال الصغير الذي يتحرّك من مكانه يوميًا، فتعيده إلى مكانه فوق المدفأة. الرجل الأبتر، الذي التقته في قسم الشرطة، والذي نصحها بالتخلّي عن القضية ومواصلة حياتها إذْ لا فائدة تُذكر، ثم يختفي، قبل أن يظهر فجأة عند تعرّضها للضرب، فيعطيها حقيبتها التي فقدتها. مشاهد عديدة أخرى تثير شكًّا في قواها العقلية. لكن ما يشفع بها سؤالها عن مكان دفن ابنها لتزوره.

أداء آنّا بالغ القوة. لم يتذبذب لحظة. ثابت بحضوره القوي. لا انفعالات زائدة ولا ميلودراما أو مبالغة أو ابتزاز عاطفي. المُدهش كامنٌ في أدائها المذهل بعد عثورها على ابنها، ومحاولتها التواصل معه، بعد إخباره بحقيقة الأمر. في أكثر من مشهد رائع، بصريًا وأدائيًا، تظهر صلابة شخصيتها، وثباتها النفسي. في النهاية، لن تدمِّر مستقبل ابنها الشاب، فهي بلغت سلامًا داخليًا نفسيًا، وتصالحت مع الماضي والعالم، بعد عذاب طويل.

الأهمّ؟ الخاتمة الرائعة، إذْ ينتقل الصراع من الأمّ إلى الابن، الذي لم يتقبّل الأمر، رافضًا التحدث مع أمّه. ثم يبدأ بملاحقتها ومراقبتها، إلى أن يتسلّل إلى شقّة أسرته الحقيقية. مرحلة آلام مُبرحة يمرّ بها. وربما يلجأ لاحقًا إلى القضاء بسبب ما لحق به، فأكثر القضايا في إسبانيا والأرجنتين رفعها الأبناء، الذين اكتشفوا بعد عقود حقيقة ما جرى لهم.
المساهمون