"احذروا الأطفال": تشويق واستمتاع بالحوار والأداء والاستقصاء

25 ديسمبر 2019
"احذروا الأطفال": لوحة سينمائية باهرة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في فيلمه الروائي الطويل الثاني، "احذروا الأطفال"، يتناول المخرج والروائي والسيناريست النرويجي داغ يوهان هاغرود (1964)، قضايا عديدة دفعة واحدة، باتزان وعمق شديدين، مع عدم الإخلال بالجوانب الفنية، وأوّلها بناء الشخصيات، وهي كثيرة ومتنوّعة وذات أبعاد مختلفة. والفيلم دراما اجتماعية واستقصائية، وعملية الاستقصاء تلك مُقدَّمة بأسلوبٍ مُغاير للمعتاد.

يبدأ "احذروا الأطفال" بحادث مأسوي في إحدى المدارس، يُفترض به تقصّي بواعثه وكيفية حدوثه وغموضه، لكنه لم يغرق كثيراً في قضيته. في خضم الأحداث، في دقائق قليلة ومشاهد قصيرة، تظهر تفاصيلها وكيفية انتهائها، ولماذا أُغلِقت. ثم العودة سريعاً إلى المتن الرئيسي، على نقيض ما تقتضيه فنّيات خاصة بأفلام الاستقصاء والتحرّي، من غموض وتشويق وإثارة وبناء تصاعدي، ثم كشف الأزمة، أو حلّ اللغز.

يوحي العنوان أنْ فيلم هاغرود ـ الضارب بشدّة في عمق المجتمع النرويجي، كاشفاً خبايا كثيرة منه ـ يتمحور حول الأطفال وعوالمهم ومشاكلهم. لكنّه لن يتوقّف كثيراً عند هذه المسألة، متّخذاً عالم الأطفال ذريعة لكشف عوالم الكبار وتعريتها، وما يخفونه من أكاذيب وأنصاف حقائق. النبرة التحذيرية الصريحة في متن العنوان لا تهدف إلى الاهتمام بالأطفال أو رعايتهم بطريقة لائقة، بل توخّي الحذر ممّا يترتّب على تصرّفاتهم من عواقب وخيمة، تلحق بالكبار.

يُفتَتح الفيلم بمشهد ملعب كرة قدم في إحدى المدارس في أوسلو. خلف المرمى، تَجمَّعَ صبية حول أحد الزملاء. لاحقاً، يتبيّن ما يحدث، إذْ تضرب ليكة (إيلا أوفيربي)، ابنة الأعوام الـ12، صديقاً لها من دون قصد، لكن الضربة تودي بحياته بعد نقله إلى المستشفى. حقيقة تُدرَك بعد منتصف الفيلم، فالقضية تتّسع وتتشعّب، وتظهر خيوط كثيرة، شائكة ومتداخلة، بدءاً من المدرّسين، المنوط بهم الإشراف على الأطفال في الملعب لكنهم لم يكونوا موجودين لحظة الحادث. هناك تساؤلات جمّة، أبرزها: ما الذي حدث؟ لماذا؟ من المُقصِّر؟ هل سيتكرّر هذا ثانية؟ بالإضافة إلى دور المدرسة والإدارة، ومسؤولية المديرة اليسارية ليف (هنرييت ستينْستروب)، الساعية إلى السيطرة على الأمور من كافة جوانبها، علماً أنْ حبيبها السرّي، اليميني المتشدّد، هو والد الصبيّ المتوفّى. وشقيقها أندرس (يان غونار رويس)، مُدرِّس اللغة النرويجية، مسوؤل عن الأطفال، لكنّه تأخّر عن مرافقتهم إلى الملعب دقائق قليلة، يقع الحادث خلالها.
ويبدأ التعرّف إلى الحبيب السرّي والوالد الأرمل، السياسي اليميني البارز وشبه العُنصري، بيير إريك (ثوربيون هارّ)، ووالد ليكة، النائب العمالي سيغورد (هانس أولاف برنّر)، ووالدتها الصحافية اليسارية إيفا (أندريا براين هوفيغ). عندها، يبرز الخيط السياسي، الذي يُفترض به أن يُنتج صداماً قوياً بين الأهل، بسبب الخلفيتين السياسية والحزبية لكلّ واحد منهم، انطلاقاً من فقدان الصبيّ جيمي، و"جريمة القتل" التي ارتكبتها ليكة، ثم يتأجّج الوضع وتشتعل الدراما. لكن هاغرود يُخالف التوقّعات، فهو لن يلعب على الوتر السياسي أبداً، ولن يُثير جدلاً مُتعلّقاً باليمين واليسار.

طول الوقت، يُظهر بيير إريك تماسكاً كبيراً، يندر أن يفقد سيطرته عليه. حتّى عند لقائه ليكة وشتمها، قبيل نهاية الفيلم، يلوم نفسه عل فعلته، فهي فتاة غير بالغة. في المقابل، يتبيّن أنّ والدي ليكة لا يمنحانها عواطف، ولا يبالغان بالحنو عليها. يقفان إلى جوارها في محنتها كطفلة، وكجانية لم ترتكب فعلتها عمداً؛ لكنهما يضعانها أمام مسؤولياتها. هنا، يبرز جلياً دور الحوار العقلاني بين الأبوين، خصوصاً في مناقشة الحالة النفسية لابنتيهما، كما لمصيرها (هل يُبقيانها في المدرسة نفسها أم لا؟)، وفي كيفية مواساة والد جيمي، وحضور حفل التأبين المدرسي.

جوانب كثيرة من "احذروا الأطفال"، خصوصاً في مشاهد المدرسة وغرف المدرّسين، تناقش بجدية وحرفية كيفية التعامل مع الأزمات، في مجال تعليم الصغار تحديداً، حيث تتشكّل البنية الأساسية والمستقبلية للمُجتمع. هناك، تُطرح أسئلة عن كيفية اختيار الكلمات المناسبة، والتعامل مع المواقف، والتواصل مع الطلاب. أحد أمتع المَشاهد: كيفية مناقشة إحدى المدرّسات رسماً لصبية وضعته على اللوح، يظهر فيه مدرّس اللغة الإنكليزية في صور جنسية.

في 157 دقيقة، لا تُلتَقط الأنفاس، لكثرة الجدل والحوارات مُتباينة المستوى بشكلٍ لافت للانتباه، لكنها غير مجانية أبداً. فمن ناحية، يُناقش الحادث وملابساته وتبعاته، فتتبلور الشخصيات، ومن ناحية أخرى، تنكشف تدريجياً أسرار شخصية، ومشاعر ذنب وألم وتأنيب، وردود أفعال، ومُعتقدات الشخصيات ووجهات نظرهم إزاء ما حدث، وكيفية التعامل معه. وطبعاً، هناك تعرية للجميع، أمام ذواتهم والآخرين.
عبر صوغه الرائع لسيناريو فيلمه (هو كاتبه)، يُذكِّر داغ يوهان هاوغرود بالطريقة التي يعتمدها الإيراني أصغر فرهادي في كتابته سيناريوهات أفلامه: طبقات عديدة يُكشَف عنها تدريجياً، وبطريقة تصاعدية توصل لاحقاً إلى الذروة، وربما إلى إحداث مُفاجئة. في "احذروا الأطفال"، صيغ السيناريو بطريقة عكسية بعض الشيء. فالذروة مُنكشفة إلى حد بعيد منذ البداية، ثم تظهر الشخصيات وأعماقها، بطريقة بانورامية ومُتشابكة في انتقالها من شخصية إلى أخرى. لذا، تحتاج مُشاهدة الفيلم إلى تركيز شديد، للاستغراق في عوالم الشخصيات. هكذا يحدث التشويق الأكبر، إلى جانب الاستمتاع بالحوار والأداء التمثيلي.

هذا كلّه من دون أدنى وجود للميلودرامية، أو المشاحنات، أو علو الصوت، أو اللعب بمشاعر المُشاهد.
دلالات
المساهمون