برزت في مصر المملوكية نخبةٌ من المؤرخين تأثّر جلّهم بابن خلدون (1332 - 1406) الذي تكوّنت له بحكم إقامته في القاهرة قرابة ربع قرن حتى رحل عنها، مدرسة اتبعت منهجه النقدي، ووُضعت العديد من المؤلّفات البارزة خلال القرن الخامس عشر الميلادي؛ مثل المقريزي وابن إياس والسخاوي.
من بين هؤلاء كان ابن الصيرفي الذي لم يلق الاهتمام ذاته وتأخّر الانتباه إليه حتى القرن الماضي، ربما لأن معظم معاصريه كتبوا عنه من باب التجريح والكراهية، وهو الذي نشأ فقيراً وتملّق أعيان الدولة حتى تصدّر صفوف القضاة والعلماء في زمنه، وتزاحم معهم على المناصب والتقدير.
"ابن الصيرفي (ت: 900 هـ/ 1494 م) حياته ومؤلّفاته التاريخية" عنوان الدراسة التي صدرت حديثاً عن "معهد المخطوطات العربية"، مذيَّلةً بصفحات لم تُنشَر من قبل من كتابه "نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان" بتحقيق الباحث محمد جمال حامد الشوربجي.
يشير المحقّق، في مقدّمته، إلى نقطة مهمّة تتعلّق بضعف ثقافة صاحب كتاب "إنباء الهصر بأبناء العصر" مقارنةً ببقية أبناء عصره، وهو ما وصفه دارسون بـ"عامية التفكير والكتابة"، لكنّه أصرّ على دخول غمار الكتابة التاريخية، بكتابة موسوعة شاملة اقتداءً بروّاد التاريخ.
نسْخ الكتب هي الحرفة الأساسية التي امتهنها ابن الصيرفي، إلى جانب الصرافة مهنة والده، وظلّ يزاولها في فترات انقطاعه عن الوظيفة الرسمية التي طلبها طوال حياته، يبحث من خلالها عن الكتب النافعة، وكان دائم التصحيح فيها ووضع الإلحاقات والهوامش، وكذلك فعل في مؤلّفاته التي نسخها بخط يده.
يستعرض الشوربجي إشكالية علاقته مع مجايليه من المؤرّخين، خاصة أستاذه يوسف بن تغري بردي الذي نهل من علمه ولازمه فترة طويلة ثم انقلب عليه وأصبح لا يذكر سوى مثالبه ونواقصه، مستفيداً من معرفته بمسوّدات كتبه التي نسخها له، إلى جانب العديد من التهم التي تتعلّق باصطناع شغفه بالتاريخ وتزلّفه للسلاطين والحكّام.
أما مع شمس الدين السخاوي، فتبدو العلاقة معه مقلوبة؛ حيث إن ابن الصيرفي كان يشيد بعلمه، بينما كتَب الثاني نقداً قاسياً بحقّه وصل حدود التشكيك في كلّ آراء صاحب "نزهة النفوس والأبدان" الذي يبدو، بحسب المحقّق، أنه لم يتقبّل قربه الشديد من ابن حجر العسقلاني، أحد كبار المؤرّخين المماليك من جيل سابق، كما أن الاثنين تنافسا على نفس الوظائف والأعطيات.
تفاصيل عديدة يتضمّنها الكتاب، يضيء بعضها على صراعات الكتّاب والنخب في تلك الحقبة لأسباب عديدة، ومنها اتهام السخاوي لابن الصيرفي بأنه نقَل مقدّمة كتابه "الجوهري" عن ابن كثير وغيره، ولم يخف غيظه بأن تلك المقدّمة لاقت تقريظ الكثيرين، أو أن لغة التأليف في مصر كانت تنزع لدى عدد من الكتّاب إلى العامية، من دون أن تشمل كامل محتوى الكتاب، لكن كُتبت بها العديد من الروايات.
يقارن الشوربجي بين بعض المواضيع التي تَشارك ابن الصيرفي في الكتابة عنها مع مؤرّخين آخرين، ومنها رسالته "الدر المنظوم في ما ورد في مصر وأعمالها بالخصوص والعموم"، مشيراً إلى أن جزءاً من معلوماته كان ضعيفاً بل ساذجاً، نقلها عمّن تقدّم من المؤرّخين.