"أمل" لمحمد صيام: فرح الثورة وخيباتها

30 مارس 2018
ثورة 25 يناير المصرية (العربي الجديد)
+ الخط -
يناير/ كانون الثاني 2011، بداية تاريخ جديد. الشعب يُسقِط النظام. الشباب في شوارع مصر فرحون. كان ذلك الزمن المجيد للربيع العربي. الثورة فعلٌ سياسي مُزلزِل ومُعْدٍ. إنه يُبهج المراهِقة أمل. وضع المخرج المصري محمد صيام معنى فيلمه الوثائقي "أمل" (2017) في اسم بطلته، التي تحكي سيرتها في مونولوغ. تقوم بتعمّق داخلي لإيصال صوتها الثوري، الذي يعكس مزاجها. 

الفيلم نموذجٌ لأفلام صُوِّرت في وقتٍ طويل، يدمج المخرج فيه ريبورتاجات ميدانية بأشرطة فيديو شخصية. أي أنه يمزج العام بالخاص. أمل في ميدان التحرير تتنكّر في زيّ ولدٍ، لأنها لا تريد أن تتصرّف كفتاةٍ في الثورة. تقول إن الشرطة بلطجية.

ما هدف الثورة؟
تجيب حنّة أرٍنِدت: "هدف الثورة هو سعادة الشعب" ("في الثورة"، ترجمة عطا عبد الوهاب، "المنظّمة العربية للترجمة"، بيروت، 2008، ص. 84). تضيف أنه لا بُدّ للثوري أن يكون مغفّلاً ليُصدِّق نجاح الثورة. مغفّلا، لأنه يؤمن بالدور المطلق للإرادة. تحقّقت الإرادة، وسقط حسني مبارك. ما البديل؟




جاءت الانتخابات ليختار الشعب. بينما يصلّي الإخوان في الشوارع، ويصرخ الضباط، ترى أمل بديلين: فلول أو إخوان؛ أحمد شفيق أو محمد مرسي. هم يصوّتون، والناس يردِّدون: "يا رب، وَلِّ علينا الأصلح". يبحث الناس عن مرشّح "يرضي ربّنا".

ما معنى ثورة "ترضي ربّنا"؟ الثورات تُرضي البشر. لكن المصوِّتين "بتوع ربّنا"، يقسمون بالله في كلّ جملة. هذا مجتمع متديّن جدًا، ومنذ القدم. روى هيرودوت أن لدى المصريين تديّنًا يبلغ حدّ الوسواس ("آلهة المصريين"، والاس بدج، ترجمة محمد حسين يونس، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص. 33). مع هذا الوضع، كيف يكون ثوريًا من يصف الوضع بمعجم المنظومة المعرفية المهيمنة؟ لماذا تندلع الثورات، إذًا؟ وكيف تنتهي؟

طُرحت هذه الأسئلة بكثافة في العالم العربي. لكنها ليست جديدة. أجاب عنها أرسطو قائلاً إنّ للثورات أسبابًا محدّدة: أولاً، غياب العدالة التوزيعية. ثانيًا، الشعور بالظلم. ثالثًا، وجود حالة ذهنية على استعداد نفساني محبِّذ للتغيير ("تاريخ الفكر السياسي"، جان كلود شوفالييه، ترجمة محمد عرب صاصيلا، "المؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع"، بيروت، ط. 5، 2006، ص. 105).

لم تتوفّر أي من هذه الشروط في حالة المراهقة أمل. هي ابنة ضابط وضابطة. والدها موظّف يزن قنطارًا. حجم الجسد يدلّ أيضًا.



تستشهد حنة أرندت بقول كارل ماركس: "تأتي الثورة عندما لا يكون للمرء شيء يخسره غير قيوده". لكن، لدى أبناء الموظّفين، هناك الكثير ليخسروه. الموظّفون هم صمّام أمان النظام، وعبيده. لن يثور الموظّفون ضد مشغِّلهم. النظام القائم هو ما تؤيده الأم. النظام نسخة من الشعب، ولم يقع من لامكان. الإرادة وحدها لا تصنع ثورة.

عام 2013، قيل للمصريين، بحسب المراهِقة أمل، إن الإخوان هم "الطاعون" (كما وُصفوا حينها من أطراف مناوئة لهم). صار المراهقون غرباء في المشهد. على جدران القاهرة، مكتوبٌ: "احذروا الفوضى". ثم ظهرت طائرة، وسُمِع صوت عبدالفتاح السيسي يبسمل ويخطب. تزامن خطاب التفويض مع مرور قطيع من الغنم والماعز على الشاشة. من الطائرة، يبدو الشعب صغيرًا.

بعد وصول السيسي إلى السلطة، ذهب المراهقون في رحلة استجمام. الكوليرا أقلّ ضررًا، وسمعتها ـ تاريخيًا ـ أفضل من سمعة الطاعون.

هكذا يرصد الفيلم الوثائقي تحوّلات بلد ومراهِقة، في 4 أعوام من الربيع العربي. كشف مرور الزمن انقشاع الأوهام. تبدّد الزمن الثوري. تضخّم "يناير"، ثم بهت مع الزمن. كلّ ما جرى كامنٌ في أنه تمّ رفع الحديث عن الثورة إلى مستوى الثورة. ظهرت أفلام كثيرة متحمّسة ومتشابهة، توثّق المرحلة.



المراهقون لا يصنعون ثورة. لديهم عوائق ذاتية: العمر، ومهنة الأب، وعدم فهم السياق. أقسى دليل هو المواجهة المختلّة بين الأم والمُراهِقة، التي لا يمكنها أن تطعم نفسها. ترفض الأم أن تصوَّر وهي تمجِّد الجيش.

ابنة الفلول لن تثور. تظهر في مشهد تمثيلي وحيدة في مضمار السباق، مع احتلالها المرتبة الأولى. تتعب. تعود إلى القرية، وفيها إيقاع رتيب، أي زمن غير ثوري.

هكذا يستعيد الواقع سطوته على الحلم في النصف الثاني من الفيلم، مع انشغال كلّ فرد بمصيره، فيجلس أفراد الأمن المركزي على الرصيف، "يكشّون" الذباب.

كانت النتائج متضمّنة في المقدمات. لذا، لم تعد أمل تعرف أمانيها. طبيعيٌّ أن ينتهي فيلم "أمل" بمعجم يائس، وصُوَر محبطة، وبدائل ذات سقف منخفض، كالزواج والهجرة. عادت المراهِقة إلى رحمة المنظومة الاجتماعية والدينية المهيمنة.

النتيجة؟ المراهِقة الثورية تريد أن تعمل شرطية. انفصام دال. المراهِقة الغلامية تتعلّم وضع الحجاب، وقد صارت في عهدة ذكر يُمْلي عليها سلوكها، ويهدّد بتركها. تضع حجابًا فوق سروال "جينز" ضيّق من تحت. قناة "روتانا" من تحت، وقناة "اقرأ" من فوق. هذه صورة تعكس الأيديولوجيا العربية المعاصرة. صارت أمل نسخة طبق الأصل من أمها. عادت مصر إلى حكم العسكر.

هذا ما سمته حنة أرِندت "الثورة تفترس أبناءها، والضرورة التاريخية ترغمهم".
المساهمون