"ألغاز" في الغاز

16 فبراير 2020

تظاهرة في عمّان ضد استيراد الغاز من إسرائيل(3/1/2020/فرانس برس)

+ الخط -
الغاز الإسرائيلي المشتعل في الأردن بات أشد ضرامًا، وينذر بفضيحةٍ ساخنةٍ مفتوحة على بئر عميقة، بعد أن تورّط رئيس الوزراء، عمر الرزاز، وأعلن أنه "لا يمتلك نسخةً عن نص الاتفاقية". وجاء هذا الاعتراف صادمًا للشعب والنواب، معًا، الذين ضغطوا عليه طوال جلسات برلمانية متعدّدة؛ لمعرفة الألغاز المتوارية في بنود الاتفاقية؛ فأن لا يعلم رئيس وزراء دولة عن اتفاقية شغلت الأردنيين منذ سنوات، وأثارت احتقانهم، ودفعتهم إلى تأسيس جمعية خاصة لمناهضتها، ولتنظيم مئات التظاهرات المناوئة لها، فذلك إنما يدرج في باب اللامعقول في الأدب السياسي.
أميل إلى تصديق الرزاز؛ فمن "قال لا أعلم فقد أفتى"، ومن يعرف "ألغاز" الحكم في العالم الثالث يدرك أن ثمّة حكومات خفية موازية لنظيراتها العلنية، تُدعى "حكومات الظل"، تملك وحدها سلطة القرارات المصيرية، في شؤون حسّاسة، على غرار اتفاقية الغاز الإسرائيلي المورد إلى الأردن، وهي بمثابة مرجعيةٍ خفيةٍ لحكومة العلن، لحسم بعض الشؤون المتعلقة بالمعاهدات والاتفاقيات وقمع التظاهرات، فيما يترك لحكومة العلن صلاحيات "ضخمة"، مثل الموافقة على شقّ شارع، أو تعطيل الدوام في الأعياد الرسمية.
على أنني أستغرب، أيضًا، لماذا تثور قوى الحراك الأردني ضدّ هذه الاتفاقية؛ على الرغم من أنها تعلم، تمامًا، أن معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل هي، في الأساس، قرار خاص بحكومة الظل، بمعنى أن التوقيع عليها كان قرارًا لا يخص حكومة العلن أو برلمان "العدم"، بل جاء من أعلى مستويات الحكم، ولم تكن تملك حكومة العلن خيارا غير التوقيع أو الرحيل، ومن ثمّ استبدالها بحكومةٍ أخرى توقّع ولا تقرأ.
وما دامت الاتفاقية المصيرية التي أنهت حالة الحرب، وجعلت من إسرائيل دولة "شقيقة" قد وقّعت، فذلك يعني أن العلاقات باتت مشرعةً على "التعاون" وعقد الاتفاقيات التي يرى الجانبان أنها تصبّ في تعزيز العلاقات بينهما. وفي مثل هذه الحالة، لن تتعدّى اتفاقية الغاز أن تكون عربة واحدة في قطار طويل، أو ذيل أفعى "أناكودا" ضخمة، ولن يضير قطار المعاهدة أن يتخلص من إحدى عرباته إن وجد أن تكلفة الاتفاقية، شعبيًّا، غدت أزيد من فائدتها، رسميًّا، إن استفحلت الاحتجاجات وتعمّقت، وباتت تهدّد بما هو أكبر من مجرّد شعار مناوئ لاستيراد الغاز، وعندها ستضرب حكومة الظل عصفورين بحجر واحد، حيث ستبدو أنها استجابت لنبض الشعب من جهة، وبأن المعاهدة الرئيسية ذاتها التي يحقد عليها الشعب ليست ذات أولوية للسلطة، بدليل إلغاء اتفاقيةٍ ضخمةٍ بهذا الحجم. وعندها قد يعتقد الشعب المخدّر بإلغاء الاتفاقية أن معاهدة السلام ذاتها قد ألغيت، أو لم تعد أولويةً في حياته السياسية، وهذا هو الأخطر، علمًا أن الحكومة الأردنية، العلنية منها والخفية، لن تُقدم على هذا الفعل بسهولةٍ في معركة ليّ الأذرع، القائمة بين الطرفين.
أخشى أن الأردنيين قد فاتهم "القطار" الطويل كله؛ في حمأة تشبثهم بعربة واحدة منه، فثمّة كثير مما يتسرّب عن اتفاقياتٍ أخرى، أجزم أنها أضخم وأخطر بكثير من اتفاقية الغاز التي أثارت حفيظتهم، منها اتفاقيات خاصة باستخراج الفوسفات وتقاسمه، مثلًا، ومنها الاتفاقية الأعتى، المتعلقة بمشروع "ناقل البحرين" الذي يقوم على شقّ قناة بين البحرين، الأحمر والميّت، وهو مشروعٌ لا يقلّ ضخامةً عن مشروع قناة السويس، بما يحمله من تغييراتٍ جغرافيةٍ وبيئية، وما يترتب عليه من مشروعاتٍ اقتصادية ستجعل إسرائيل ركنًا عضويًّا في الإقليم، وليس محض كيان "عدوّ" أو دخيل حتى. ولربما كان حريًّا بنواب الأردن وحراكاته الشعبية أن تسأل الرزاز عن ألغاز هذا المشروع المجمّد حاليًّا، ولكن غير الملغى بعد.
ربما كان قتل الأفعى يبدأ من رأسها، أي من معاهدة السلام ذاتها، غير أن ذلك لا يمنع من البدء من الذيل أحيانًا، وفي هذا أشاطر المتظاهرين الأردنيين شعاراتهم إن "غاز العدوّ احتلال"، لكن شرط أن لا نغفل عن الرأس أبدًا، لأنه أصل "الاحتلال" كله، وتكريسه وتعزيزه، وهذا ما نفتي به، نحن الشعب، أزيد من الرزاز الذي "لا يعلم شيئًا".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.