"أكذوبة" الرأي العام
هل في مقدور كل الناس تشكيل رأي؟ هل كل الآراء متساوية من حيث القيمة؟ هل يعني طرح السؤال نفسه على جميع الناس أن هناك إجماعاً حول الأسئلة التي تستحق الطرح؟ وأن الناس يعانون المشكلات نفسها التي تعالجها الأسئلة؟
لا يمكن إلا لجاحدٍ، حسب بيير بورديو، أن ينكر أن عملية استطلاع الآراء تنطلق من أسئلة متحيزة، على أن الإجابة تأتي متضمنةً في الشكل الذي يتم به طرح السؤال، فإذا ما اجتزنا، على سبيل المثال، الخاصية الأساسية لبناء استمارة "التي تلتزم ببسط كل الحظوظ الممكنة، لكل الأجوبة الممكنة، فإنه يتم تجاهل خيارات أجوبة وأسئلة ممكنة، ذات علاقة بالأسئلة والأجوبة المقترحة، أو يتم اقتراح الخيارات عينها، مراتٍ عديدة بصيغ متعدّدة".
وستتضح مسألة التحيز والإدماج اللتين يقوم عليهما الرأي العام، بشكل جلي، إذا ما علمنا أن القضايا التي تتكفل بها مؤسساتٌ متخصصةٌ في عملية سبر الآراء، تفرض عليها بشكل قوي، نتيجة ارتباط هذه الآراء بالسيطرة التي يفرضها الطلب الاجتماعي، إذ لا يمكن، مثلاً، لمؤسسة ما أن تتبنى قضية التعليم، إلا إذا كانت الأخيرة تشكل مشكلاً سياسياً. هذا ما أدى ببير بورديو إلى القول إن "عمليات سبر الآراء في الوقت الحالي أداة للعمل السياسي"، وإن الوظيفة الأساسية التي وجدت من أجلها هي ترسيخ وهم زائف، يروج وجود مقولةٍ، اسمها الرأي العام، يعبر بموضوعية عن مختلف آراء الأفراد. بل إن ما تروجه وسائل الإعلام من نسب مئوية (60% من الفرنسيين يؤيدون كذا أو كذا) لا تعدو أن تكون فقاعةً مصطنعة، تتغيا، بالدرجة الأولى، التستر عن طريق هذه النسب المئوية. "معلوم أن كل ممارسة للقوة تحمل معها خطاباً يسعى إلى إضفاء الشرعيّة على من يمارس هذه القوة، بل يمكن أن نقرّ بأن خصوصية كل ميزان قوى كيفما كان، تتجلى في أنه لا يمتلك هذه القوة بشكل مطلق، اللهم إذا ما ظهر على
ذلك الشكل، وخلاصة القول، حتى نتكلم بوضوح، فرجل السياسة هو من يقول "إن الله معنا"، ويقابل هذا القول في أيامنا هذه "الرأي العام معنا". هو ذا الأثر الجوهري الذي ينتج عن عملية سبر الآراء: تشكيل فكرة تنطلق من أن الرأي العام موجود، وهناك إجماع حوله، الغاية إذن إضفاء شرعية حولة سياسة معينة، ودعم موازين القوى التي تشكلها، أو تتيح لها إمكانات الوجود".
تنطلق معاهد سبر الآراء، حسب بيير بورديو، من فكرة واهمة، مفادها بأن في وسع كل الناس بلورة رأي، وأن بمقدورهم الإجابة عن الأسئلة بشكل ملائم ومتساوٍ، وتركيب طابعها السياسي وإدراكه، جاهلة بذلك أن الناس ينتجون آراءهم في ارتباطٍ وثيقٍ وعميقٍ بروح طبقاتهم، أو بمنظومة القيم الضمنية التي ترعرعوا داخلها، والتي ترسخت في لاوعيهم منذ الطفولة. يمكن لعملية سبر الآراء أن تكون أكثر ملامسةً للواقع، "إذا ما أتحنا للناس المسوّغات التي تجعلهم يتموقعون، بالكيفية نفسها التي يتموقعون بها في الواقع اليومي، بمعنى عوض أن نقول لهم: "هناك من يؤيد تحديد النسل، ومن يعارضه، فماذا عنكم؟..."، نعرض مسلسلاً من المواقف الصريحة، لجماعات تتوفر على قدرة بناء الآراء ونشرها. بشكلٍ يتيح للناس إمكانية التموقع، حسب الإجابات المشكلة مسبقاً".
بإيجاز، تشكيل رأي سياسي، لدى عامة الناس، ليس أمراً يسيراً، أو متاحاً، كما يروج ذلك مستثمرو الرأي العام. وهذا راجع إلى إيمانهم بتصور واهم، مفاده بأن كل مواطن قادر على فهم المشهد الإيديولوجي للقضايا والولاءات السياسية. وبالتالي، فهو قادر على تشكيل موقف معقول، وتأسيس سلوك سياسي، انطلاقاً من قائمة المعلومات التي يتوفر عليها إزاء القضايا السياسية الرئيسة، إذا كان لهذا التصور الذي يروجه مستثمرو الرأي العام ما يفنّده في الواقع الاجتماعي والسياسي اليومي، لمواطنين مستنيرين ينتمون إلى مجتمعاتٍ قطعت أشواطاً كبرى في مسيرة إحقاق الديمقراطية، فماذا يمكن أن نقول عن مجتمعاتٍ مثل التي ننتمي إليها، حيث الأمية والجهل يرخيان بظلالهما على جل الأفراد، حتى لا أقول المواطنين.
لا يزال الإنسان العربي رازحاً تحت نير التشظّي والانقسام بين ذاتين: ذات مواطنين وذات رعايا، وهذا راجع إلى أنه ما زال يعيش ضمن بنياتٍ راكدةٍ آسنة تقليدية متهالكة، من حيث العمق، حديثة متطورة من حيت السطح. هذا الانقسام والتشظي؛ ما برح يعمّ كل مكونات المجتمعات العربية المعاصرة التي تهمش الثقافة العلمية؛ وتفتح المجال أمام الثقافات البدوية، التي تعتمد العصبيات والمذهبيات وأساطيرها، والسحر وتقنياته، وتطمس أدنى بوادر الانتقال التطوري من ثقافةٍ، تقوم على تضامن تكراري انطوائي، إلى أخرى، تقوم على تضامن إبداعي انفتاحي.
هذا التعايش بين التراث والحداثة، التتريث والتحديث، البداوة والحضارة، أدى إلى إنتاج بنى مركبة متناقضة، تصل وتفصل الماضي عن الحاضر، وتعمل على إنتاج ثقافةٍ بدويةٍ انطوائية، تعمد إلى التتريث (تجديد التراث) وإخضاع المتعدد للواحد الأوحد، في مقابل تحقيق الرعاية والحماية، وتجنب النبذ والاستبعاد والإقصاء. وبالتالي، سرعان ما تتحول هذه البنيات إلى معتقلات ذاتية، يرتضيها الفرد لنفسه، حفاظاً على أمنه ومنبع رزقه. ومن ثمّة، فإن العدو اللدود الذي تعمل محركات هذه البنيات جاهدةً من أجل محاربته، هو روح الانطلاق والحرية، إذ تعتبرهما زيغاً عن الثوابت والأصول.
على الرغم من أن الدول العربية تعرف تكنولوجيا متقدّمة في نظم المعلومات والتعامل، وتشهد هياكل تنظيمية اقتصادية ومجتمعية (نوادٍ ثقافية، جمعيات، أحزاب ونقابات مهنية...) توحي بالتحديث، إلا أن هذه التنظيمات والهياكل تبقى جوفاء عمياء، إذا لم ينعشها أفراد. وهؤلاء الأفراد قادة وأتباع، كيف يفكرون، كيف يتصرّفون، كيف يتخاطبون؟ إذا كانوا قد نشأوا في
أحضان ثقافة القبيلة، وإذا كانت تربية القبيلة هي كل ثقافة الأم، مجسّدة في سلوكها وكلامها ونصائحها، ألا يؤدي ذلك إلى تحويل فرع الحزب والنقابة والجمعية وسائر التنظيمات الحديثة في المدينة إلى قبيلة مصغرة تنتج ثقافة الخضوع والانقياد والنية والتوسل؟
على الرغم من أن القائمين على الحكم في هذه الدول لا يبرحون ينادون بحكم المؤسسات وحكم القانون ونظم الإدارة الحديثة، إلا أنهم يتصرفون وفق منطق بدولوجي، فلا تخلو أي إدارة عربية من هياكل تنظيمية رسمية تنبع من الأسس العلمية والقانونية، إلا أن القوى المحركة لها لا زالت تنبع من الهياكل البدوية التقليدية، القائمة على العائلة والطائفة والعشيرة.
لا سبيل أمام الإنسان العربي، من أجل تخطي هذه المحنة، سوى تبني مؤسستي العقل والعلم؛ حتى يجد نفسه أمام فرصةٍ حقيقية؛ لتنوير ذاته بوعيه، ولإنتاج علمانيته وحداثته؛ وإلا سيظل لصيقاً بمؤسسة البداوة ومؤسسة إفتاء الأحاديث، وما ينجر عنها من استغلاق سياسي، يستبدل المتعدّد بالواحد الأوحد.
معيار الحداثة السياسية، إذن، كما أعلن المحلل النفسي مصطفى صفوان، هو الانتقال من حزب القبيلة إلى حزب العلمانية التعدّدية، ويقصد بالعلمانية، هنا، إحداث قطيعة كاملة مع تلك الأشكال البدوية التقليدية للتربية والمتوارثة عن الماضي، ولا يقصد بها تلك العقيدة الوهمية، التي دفعت الشيوعية ثمناً غالياً لاعتناقها، في فترة تاريخية معينة، والمتمثلة في "مجتمع كلي الإلحاد". ويقصد بحزب العلمانية التعددية أيضاً ذلك الكيان المتشرب قيم أثينا اليونان، حيث قامت أول ديمقراطية معروفة في الغرب، ومنعت تجديد ولاية الحاكم الأكثر شعبيةً لدى الجماهير، على الرغم من تفانيه في خدمتها، حتى لا يصاب بمرض جوع التسلط، وذلك بفتح المجال لعقلانية عملية، تنسف الديكورات والكليشيهات السياسية السطحية، وتطور البنية الحزبية ذات البناء القبلي والشكل الحضاري، انطلاقاً من مدارس وجامعات تفصل الموهوم عن المعلوم والبداوات الحزبية عن الحضارات الحزبية، بلا تدخلات فقهية متحجرة، ولا مناورات تضليلية.
يقتضي تحرير الإنسان العربي من بنى الاستبداد والهدر الكياني، إذن، قيام ثورة على صعيد الفكر الإنساني، ثورة تسعى إلى إطلاق طاقات الإنسان الحية، واستثمار قدراته، ومن أجل ذلك، لا بد من تحرير المبادرة والإرادة الإنسانية من كل قيود التوارث الراكد القائم على المرجعيات الغيبية والحق الإلهي.
لا يمكن إلا لجاحدٍ، حسب بيير بورديو، أن ينكر أن عملية استطلاع الآراء تنطلق من أسئلة متحيزة، على أن الإجابة تأتي متضمنةً في الشكل الذي يتم به طرح السؤال، فإذا ما اجتزنا، على سبيل المثال، الخاصية الأساسية لبناء استمارة "التي تلتزم ببسط كل الحظوظ الممكنة، لكل الأجوبة الممكنة، فإنه يتم تجاهل خيارات أجوبة وأسئلة ممكنة، ذات علاقة بالأسئلة والأجوبة المقترحة، أو يتم اقتراح الخيارات عينها، مراتٍ عديدة بصيغ متعدّدة".
وستتضح مسألة التحيز والإدماج اللتين يقوم عليهما الرأي العام، بشكل جلي، إذا ما علمنا أن القضايا التي تتكفل بها مؤسساتٌ متخصصةٌ في عملية سبر الآراء، تفرض عليها بشكل قوي، نتيجة ارتباط هذه الآراء بالسيطرة التي يفرضها الطلب الاجتماعي، إذ لا يمكن، مثلاً، لمؤسسة ما أن تتبنى قضية التعليم، إلا إذا كانت الأخيرة تشكل مشكلاً سياسياً. هذا ما أدى ببير بورديو إلى القول إن "عمليات سبر الآراء في الوقت الحالي أداة للعمل السياسي"، وإن الوظيفة الأساسية التي وجدت من أجلها هي ترسيخ وهم زائف، يروج وجود مقولةٍ، اسمها الرأي العام، يعبر بموضوعية عن مختلف آراء الأفراد. بل إن ما تروجه وسائل الإعلام من نسب مئوية (60% من الفرنسيين يؤيدون كذا أو كذا) لا تعدو أن تكون فقاعةً مصطنعة، تتغيا، بالدرجة الأولى، التستر عن طريق هذه النسب المئوية. "معلوم أن كل ممارسة للقوة تحمل معها خطاباً يسعى إلى إضفاء الشرعيّة على من يمارس هذه القوة، بل يمكن أن نقرّ بأن خصوصية كل ميزان قوى كيفما كان، تتجلى في أنه لا يمتلك هذه القوة بشكل مطلق، اللهم إذا ما ظهر على
تنطلق معاهد سبر الآراء، حسب بيير بورديو، من فكرة واهمة، مفادها بأن في وسع كل الناس بلورة رأي، وأن بمقدورهم الإجابة عن الأسئلة بشكل ملائم ومتساوٍ، وتركيب طابعها السياسي وإدراكه، جاهلة بذلك أن الناس ينتجون آراءهم في ارتباطٍ وثيقٍ وعميقٍ بروح طبقاتهم، أو بمنظومة القيم الضمنية التي ترعرعوا داخلها، والتي ترسخت في لاوعيهم منذ الطفولة. يمكن لعملية سبر الآراء أن تكون أكثر ملامسةً للواقع، "إذا ما أتحنا للناس المسوّغات التي تجعلهم يتموقعون، بالكيفية نفسها التي يتموقعون بها في الواقع اليومي، بمعنى عوض أن نقول لهم: "هناك من يؤيد تحديد النسل، ومن يعارضه، فماذا عنكم؟..."، نعرض مسلسلاً من المواقف الصريحة، لجماعات تتوفر على قدرة بناء الآراء ونشرها. بشكلٍ يتيح للناس إمكانية التموقع، حسب الإجابات المشكلة مسبقاً".
بإيجاز، تشكيل رأي سياسي، لدى عامة الناس، ليس أمراً يسيراً، أو متاحاً، كما يروج ذلك مستثمرو الرأي العام. وهذا راجع إلى إيمانهم بتصور واهم، مفاده بأن كل مواطن قادر على فهم المشهد الإيديولوجي للقضايا والولاءات السياسية. وبالتالي، فهو قادر على تشكيل موقف معقول، وتأسيس سلوك سياسي، انطلاقاً من قائمة المعلومات التي يتوفر عليها إزاء القضايا السياسية الرئيسة، إذا كان لهذا التصور الذي يروجه مستثمرو الرأي العام ما يفنّده في الواقع الاجتماعي والسياسي اليومي، لمواطنين مستنيرين ينتمون إلى مجتمعاتٍ قطعت أشواطاً كبرى في مسيرة إحقاق الديمقراطية، فماذا يمكن أن نقول عن مجتمعاتٍ مثل التي ننتمي إليها، حيث الأمية والجهل يرخيان بظلالهما على جل الأفراد، حتى لا أقول المواطنين.
لا يزال الإنسان العربي رازحاً تحت نير التشظّي والانقسام بين ذاتين: ذات مواطنين وذات رعايا، وهذا راجع إلى أنه ما زال يعيش ضمن بنياتٍ راكدةٍ آسنة تقليدية متهالكة، من حيث العمق، حديثة متطورة من حيت السطح. هذا الانقسام والتشظي؛ ما برح يعمّ كل مكونات المجتمعات العربية المعاصرة التي تهمش الثقافة العلمية؛ وتفتح المجال أمام الثقافات البدوية، التي تعتمد العصبيات والمذهبيات وأساطيرها، والسحر وتقنياته، وتطمس أدنى بوادر الانتقال التطوري من ثقافةٍ، تقوم على تضامن تكراري انطوائي، إلى أخرى، تقوم على تضامن إبداعي انفتاحي.
هذا التعايش بين التراث والحداثة، التتريث والتحديث، البداوة والحضارة، أدى إلى إنتاج بنى مركبة متناقضة، تصل وتفصل الماضي عن الحاضر، وتعمل على إنتاج ثقافةٍ بدويةٍ انطوائية، تعمد إلى التتريث (تجديد التراث) وإخضاع المتعدد للواحد الأوحد، في مقابل تحقيق الرعاية والحماية، وتجنب النبذ والاستبعاد والإقصاء. وبالتالي، سرعان ما تتحول هذه البنيات إلى معتقلات ذاتية، يرتضيها الفرد لنفسه، حفاظاً على أمنه ومنبع رزقه. ومن ثمّة، فإن العدو اللدود الذي تعمل محركات هذه البنيات جاهدةً من أجل محاربته، هو روح الانطلاق والحرية، إذ تعتبرهما زيغاً عن الثوابت والأصول.
على الرغم من أن الدول العربية تعرف تكنولوجيا متقدّمة في نظم المعلومات والتعامل، وتشهد هياكل تنظيمية اقتصادية ومجتمعية (نوادٍ ثقافية، جمعيات، أحزاب ونقابات مهنية...) توحي بالتحديث، إلا أن هذه التنظيمات والهياكل تبقى جوفاء عمياء، إذا لم ينعشها أفراد. وهؤلاء الأفراد قادة وأتباع، كيف يفكرون، كيف يتصرّفون، كيف يتخاطبون؟ إذا كانوا قد نشأوا في
على الرغم من أن القائمين على الحكم في هذه الدول لا يبرحون ينادون بحكم المؤسسات وحكم القانون ونظم الإدارة الحديثة، إلا أنهم يتصرفون وفق منطق بدولوجي، فلا تخلو أي إدارة عربية من هياكل تنظيمية رسمية تنبع من الأسس العلمية والقانونية، إلا أن القوى المحركة لها لا زالت تنبع من الهياكل البدوية التقليدية، القائمة على العائلة والطائفة والعشيرة.
لا سبيل أمام الإنسان العربي، من أجل تخطي هذه المحنة، سوى تبني مؤسستي العقل والعلم؛ حتى يجد نفسه أمام فرصةٍ حقيقية؛ لتنوير ذاته بوعيه، ولإنتاج علمانيته وحداثته؛ وإلا سيظل لصيقاً بمؤسسة البداوة ومؤسسة إفتاء الأحاديث، وما ينجر عنها من استغلاق سياسي، يستبدل المتعدّد بالواحد الأوحد.
معيار الحداثة السياسية، إذن، كما أعلن المحلل النفسي مصطفى صفوان، هو الانتقال من حزب القبيلة إلى حزب العلمانية التعدّدية، ويقصد بالعلمانية، هنا، إحداث قطيعة كاملة مع تلك الأشكال البدوية التقليدية للتربية والمتوارثة عن الماضي، ولا يقصد بها تلك العقيدة الوهمية، التي دفعت الشيوعية ثمناً غالياً لاعتناقها، في فترة تاريخية معينة، والمتمثلة في "مجتمع كلي الإلحاد". ويقصد بحزب العلمانية التعددية أيضاً ذلك الكيان المتشرب قيم أثينا اليونان، حيث قامت أول ديمقراطية معروفة في الغرب، ومنعت تجديد ولاية الحاكم الأكثر شعبيةً لدى الجماهير، على الرغم من تفانيه في خدمتها، حتى لا يصاب بمرض جوع التسلط، وذلك بفتح المجال لعقلانية عملية، تنسف الديكورات والكليشيهات السياسية السطحية، وتطور البنية الحزبية ذات البناء القبلي والشكل الحضاري، انطلاقاً من مدارس وجامعات تفصل الموهوم عن المعلوم والبداوات الحزبية عن الحضارات الحزبية، بلا تدخلات فقهية متحجرة، ولا مناورات تضليلية.
يقتضي تحرير الإنسان العربي من بنى الاستبداد والهدر الكياني، إذن، قيام ثورة على صعيد الفكر الإنساني، ثورة تسعى إلى إطلاق طاقات الإنسان الحية، واستثمار قدراته، ومن أجل ذلك، لا بد من تحرير المبادرة والإرادة الإنسانية من كل قيود التوارث الراكد القائم على المرجعيات الغيبية والحق الإلهي.