"أفلام حقوق الإنسان" في بيروت: صِدام الحريات والقمع

16 يوليو 2018
من "الفرقة" للعراقي الباقر جعفر (الملف الصحافي للمهرجان)
+ الخط -
رغم الفترة القصيرة المارّة على تأسيسه، يستمرّ "مهرجان كرامة ـ بيروت لأفلام حقوق الإنسان" في تقديم نتاجٍ سينمائي يعكس جوانب من أحوال العالم وخرابه، عبر صُوَر بصرية مستلّة من وقائع وحقائق وتفاصيل. لن يكون البؤس الناتج من الخراب مادة وحيدة، فـ"الأشياء الجميلة" حاضرةٌ في مجتمعات وبيئات، يصنعها أفرادٌ يريدون عيشًا وحرية من دون التغاضي عن أساليب تربوية وسلوكية مُنبثقة من البيئات نفسها التي يُقيمون فيها. 

والمهرجان، الملتزم "حقوق الإنسان" وإنْ بعناوين تختلف بين دورةٍ وأخرى، يُنبِّه إلى الخراب المعتمل في اجتماع ونفوس، ويساهم في بلورة آفاقٍ تبغيها أفلامٌ عديدة في مواجهتها ضيق اليومي واختناق الحياتي. ففي مواجهة قمعٍ أو نبذٍ أو رفضٍ بسبب اختلافٍ ثقافي ومسلكي واجتماعي وديني، لن يتردّد كثيرون عن تلبية حاجاتٍ ذاتية وفقًا لقناعات خاصّة بهم، جاعلين من الإيجابيّ أداة تعبيرٍ وبوح يُقاومان المنع والتدمير المتنوّع الأشكال. وفي ظلّ حصارٍ أو اعتقالٍ أو تمزّق، يتمكّن البعض من تحويلِ أي مَنفذٍ لتنفّسٍ طبيعي إلى نبضٍ حياتي.

اختيار أفلامٍ مرتكزة على حكايات وحالات وانفعالات كهذه، في مهرجانٍ يبغي دفاعًا عن حقوق إنسانية متنوّعة للفرد والجماعة معًا، متأتٍ من معنى المهرجان والتزاماته. ذلك أن "مهرجان كرامة ـ بيروت لأفلام حقوق الإنسان" يطرح "قضايا ساخنة وعالقة في مسار الثقافة الحقوقية المحلية، كازدياد حالات المنع من المعرفة والتعبير، البارزة في الآونة الأخيرة بشكليها القانوني والمعرفي"، كما يقول رئيس المهرجان هيثم شمص، مُضيفًا أن "حرية التعبير غير متعلّقة بالقراءات المنحرفة للدساتير فقط بل بإيذاء الكرامة الإنسانية، أحد الحقوق المؤسِّسة لشرعة حقوق الإنسان الكونية، التي تتبنّى وتُقونن السلام الاجتماعي المعترِف بالاختلاف كأحد مسبِّبات الاجتماع البشري، الخاضع للتنوّع المُنتِج لرؤى متعدّدة ومبتكرة".

في تقديمه الدورة الـ3 للمهرجان، المُقامة في سينما "متروبوليس" في بيروت بين 17 و20 يوليو/ تموز 2018، يقول هيثم شمص إنّ "إلحاق الأذى بالمسؤولية المجتمعية التي تضمنها الكرامة الإنسانية وتحرسها يعني تحديدًا الانتقال إلى الاستبداد الذي ينفي وجود الدولة الحديثة"، ويرى أن الواقع الراهن شاهدٌ على استباحة الكرامة الإنسانية بمصادرة الحق في المعرفة والتعبير، "إذْ تتتالى وتتكاثر قرارات المنع من التعبير في دول تُعتبر نفسها حديثة وديمقراطية، بذرائع ومبرّرات متناقضة مع واقع حريات التعبير في العالم المتحضّر من جهة أولى، ومع القراءة الراشدة للدساتير والقوانين من جهة ثانية".

لذا، تحمل الدورة الـ3 هذه عنوان "حرّروا الكلمة"، بعد دورتين أولى بعنوان "الآخرون" (21 ـ 23 يوليو/ تموز 2016) وثانية بعنوان "الهويات الجديدة" (11 ـ 14 يوليو/ تموز 2017). ذلك أن "إجراءات كتلك تؤذي مساعينا إلى تعميم ممارسة حقوق الإنسان في بلدنا كما وافقت عليها دولتنا". والأفلام المختارة "جزءٌ من واجبنا في التحذير من النتائج الخطرة للرقابة والمنع، التي يؤدّي تراكمها إلى خراب البنية الاجتماعية وانفجارها".



هذا كلّه متمثّل بـ16 فيلمًا، تتضمّن 7 وثائقيات طويلة و4 وثائقيات قصيرة و5 أفلام روائية قصيرة، مُنتجة كلّها بين عامي 2015 و2018، فالمهرجان غير تنافسيّ وغير مهتمّ بمسابقة وجوائز، بقدر سعيه الدؤوب إلى تعميم بعض المعرفة والوعي عبر أفلام متلائمة وطروحاتها الثقافية والإنسانية والفنية. 16 فيلمًا تختصر شيئًا من التفاصيل المنضوية في مسائل القمع والمنع والرفض، وترسم صورة واقعية عن أفراد يواجهون ويتحدّون كي يقولوا بعض ما يملكون من أمل وحلم ورغبة وهاجس.

ولعلّ اختيار "نادي ركوب الأمواج في غزّة" (ألمانيا، 2016، 87 د.) لفيليب غْنادت (إنتاج ميكي يمين) لافتتاح الدورة الـ3 هذه يؤكّد على المناخ العام للأيام الـ4 المتضمّنة ندوة تناقش "واقع حرية التعبير في لبنان"، بمشاركة أيمن مهنا، المدير التنفيذي لـ"مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية (سكايز)"، والصحافية والناشطة ديانا مقلّد (الخميس 19/ 7)، تمامًا كفيلم الختام "الفرقة" (العراق ـ الأردن، 2017، 67 د.) للباقر جعفر. فالفيلمان يلتقيان عند مشتركات عامة في العيش اليومي في حصار يمنع شبابًا من تحقيق ما يبغون، وإنْ يعثرون على وسائل لفعل المُراد والمطلوب.

فالأول يروي يوميات شباب فلسطينيين محاصرين في غزّة رغم انفتاح القطاع على البحر، لكن القطاع برمّته سجنٌ لن يكون سهلاً على أحدٍ الخروج منه (بسبب الاحتلال والحصار الإسرائيليين بالدرجة الأولى)، كما يقول أبو جيّاب (42 عامًا)، إحدى شخصيات "النادي". والثاني يروي، هو أيضًا، يوميات شباب عراقيين محاصرين بين عشقٍ للموسيقى وعجزٍ عن عزفها في "مدينة الصدر"، لأن سلطة دينية مسيطرة عليها ترى فيها انحلالاً ودافعًا للشباب إلى الانحراف والرذيلة. في الأول، يستفيد الشباب الفلسطينيون من البحر قدر المستطاع، فيمارسون رياضة ركوب الأمواج بالإمكانيات المتواضعة التي يملكون، وبحماسة لن يقضي عليها شيءٌ أو أحد. وفي الثاني، يخرج الشباب العراقيون إلى أمكنة تتيح لهم العزف، لكنهم يُدركون حجم المخاطر المميتة التي يُمكن التعرّض لها داخل مدينتهم.

مع الشباب الفلسطينيين، تظهر سمات تربية دينية تقليدية، رغم أن هناك من يسمح لبناته الصبايا ممارسة تلك الرياضة. ومع الشباب العراقيين، تنكشف أهوال الخضوع المطلق لسلطة دينية ـ سياسية ـ اجتماعية، في لحظة متوترة ومضطربة في عراق ما بعد صدام حسين والاحتلال الأميركي لمناطق عراقية مختلفة.



الفيلمان يستجيبان، وإنْ بأسلوبين سينمائيين وثائقيين مختلفين، للحاجة الثقافية والإنسانية والفنية التي يريدها "مهرجان كرامة ـ بيروت". فهما يُبيّنان الآثار السلبية العامة للمنع والرفض والانتقاص من حقّ الفرد في التعبير عن رغباته وميوله الفنية والفكرية والحياتية، ويكشفان معنى المواجهة والتحدّي بحِيَلٍ وأساليب تلبّي رغبات فردية من دون أن تتمرّد كلّيًا على طغيان القمع والمنع والرفض، علمًأ أن ممارسة ما يرغبون تُشكِّل أداة أساسية ومهمّة في فعلي المواجهة والتحدّي.

أفلامٌ أخرى تُقدِّم جوانب من المشهد الإنساني العام في بيئات مختلفة. فالحروب عاملٌ لهجرة غير شرعية، تؤدّي إلى صدام مبطّن أو تعاون حذر بين لاجئ ومُقيم، في بلادٍ مُشلّعة، هي أيضًا، على خراب أو مآزق أو تمزّقات. في "شحن" (لبنان ـ قبرص ـ فرنسا، 2017، 20 د.) لكريم رحباني، سردٌ لحالة إنسانية تتمثّل بوصول عجوز وحفيده من سورية إلى بيروت، هربًا من حرب وقتل وتدمير، فيواجه الحفيد مخاطر بيئة مختلفة، مع عجوز مُصاب بنوع من الخرف. التحدّيات قاسية، والرغبة في حقّ طبيعي أقوى من كلّ طغيان ("العربي الجديد"، 11 ديسمبر، كانون الأول 2017). بينما "ذاكرة باللون الخاكي" (سورية، 2016، 108 د.) للفوز طنجور يرافق شخصيات عديدة تتوزّع اهتماماتها على الأدب والرسم والنشاط المدني، وتروي حكاياتها مع القمع والاضطهاد والمواجهة العفوية السابقة على اندلاع حرب النظام السوري ضد البلد والناس ("ضفة ثالثة" في "العربي الجديد"، 15 ديسمبر/ كانون الأول 2016).

سؤال الحجاب، المطروح بمواربة تليق بالمسار الحكائي في "نادي ركوب الأمواج في غزّة"، نواة أساسية في "خسوف" (لبنان، 2017، 18 د.) لبسمة فرحات. فالوثائقي الجامعي ("معهد الدراسات المسرحية والسمعية المرئية والسينمائية" في "جامعة القديس يوسف" في بيروت) تعبيرٌ مباشر عن نقاشٍ سائد بين شابّة ووالديها حول الحجاب وضرورة/ عدم ضرورة ارتدائه، والموقف الشخصي البحت لدى الشابّة إزاء حرية خياراتها الحياتية. نقاش بسيط وعميق في آن واحد، كونه غير تنظيري بل عملي وواقعي وحسّي.

هذه نماذج مستلّة من برنامج غنيّ بأفلامٍ يتوقّع أن تُثير اهتمام معنيين بالشأن الإنساني المفتوح على أسئلة اليومي والاجتماعي والثقافي والفردي.
المساهمون