"أشياء تُقال فلا تبقى كما هي": سحر طبيعة وكاميرا

18 سبتمبر 2019
إيموتو: أداء باهر في معاينة التحوّلات (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
رجل عجوز ووحيد ينقل، بقاربه الصغير، ركّابًا بين ضفتيّ نهر. له صديق شاب فيه شيء من سذاجة تفكير وتصرّف. ركّاب عديدون يعرفون العجوز. آخرون يجهلون حكاياته وسيرته. بعضهم يتعالى عليه ويُهينه، فتظهر ابتسامة ملتبسة على وجهه، ويبقى صامتًا. لا شيء يحدث، باستثناء تنقّله بين ضفتيّ النهر، وله في إحداهما بيتٌ متواضع للغاية. 

لقطات يتكرّر فيها فعلٌ واحد، وتمتدّ وقتًا كافيًا لفهم بعض ما يُقيم فيه العحوز، الذي يُدعى تويتسي (أكيرا إيموتو)، وهذا في "لا شيء يقولونه يبقى كما هو" (2019، 137 دقيقة) لجو أوداغيري (1976)، الممثل والموسيقيّ الياباني، المنتقل إلى الإخراج. الفيلم يُشارك في الدورة الثالثة (19 ـ 27 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان الجونة السينمائي".

لقطات غير مكتفية بتويتسي، وبفعله الروتيني ولقاءاته أناسًا مختلفي الأمزجة والرغبات والنضج، فللتصوير (كريستوفر دويل) دورٌ في تلطيف المناخ الضاغط، أو في زيادته، إذْ تلتقط الكاميرا تفاصيل الطبيعة التي تحيط بتويتسي ومنزله المتواضع وصديقه غينزو (موراكامي نيجيرو). طبيعة ساحرة، بجبالها وأشجارها وصدى الريح فيها أحيانًا، وبمياه نهرها وصوت خريره، وبألوان نهارها وبهاء ليلها. كاميرا تتمتّع بتصوير هذا كلّه، كأنّه امتداد لسكينة يبحث عنها تويتسي أو يُقيم فيها، رغم عثوره على شابّة في النهر مُغمى عليها، فيُسعفها ويُنقذها من موتٍ أكيد، من دون أن يعرف شيئًا عنها.

تصوير الطبيعة ركنُ أساسيّ، يرافق المسار الدرامي وانقلابات أحداثه. قبل وقتٍ قليل من عثوره على الشابّة في النهر، يروي قرويون لتويتسي أنّ عنفًا يحلّ بقرية غير بعيدة عنه، يؤدّي إلى قتل أفراد عائلة كاملة. يُخبره هؤلاء أنّ كلامًا يتردّد بين الناس، عن شاب أو شابّة مختف/ مختفية بُعيد الجريمة. يُحذّرونه من "قاتل" مجهول ربما يأتي إليه رفقة الشاب/ الشابّة، فهم غير متأكّدين إنْ كان المختفي شابًا أو شابّة. عثوره على الشابّة (كواشيما ريريكا) بعد قصّة الجريمة لن يُثنيه عن الاهتمام بها، فللحسّ الأبويّ دورٌ في ذلك، وربما الرغبة في تبديل نمط روتيني في حياة يومية تدفعه إلى إسعافها. يمرّ وقتٌ طويل قبل استيقاظها من غيبوبتها. ويمرّ وقت أطول قبل أن تنطق بكلمة. تختفي فجأة، ثم تظهر بعد أيام. تتحدّث إليه ولو قليلاً، وهو، باختفائها وعودتها المفاجئين، يتعامل مع المسألة ومعها ببساطة وسلاسة، كأنْ لا اختفاء ولا عودة.

تتداخل العناوين الخفيّة في السياق الدرامي للنصّ (كتابة أوداغيري نفسه). الوحدة والشيخوخة تواجهان عمرًا يقترب من النهاية، والسلطات، التي لن تظهر إطلاقًا، تبني جسرًا بين ضفتيّ النهر، ليس بعيدًا عن مكان إقامة تويتسي وعمله. أحوال القرى ويوميات الناس والألغاز المحيطة بكثيرين، جزءٌ من لاوعي فردي وجماعي، تنفلش في السياق نفسه، ملمّحةً إلى معانيها من دون غوصٍ سينمائي كبير فيها. هلوسات تُصيب تويتسي، فيرى بعينيه شخصًا غريبًا بملابس أغرب منه، يُخبره أنّه يعرف الكثير عنه. العنف المبطّن في ذاته ينكشف في أعماق روحه، عبر لقطات يهاجم فيها بُناة الجسر. لكن، رغم هذا كلّه، لن تنكشف أمورٌ عديدة، فالالتباسات، وإنْ يكن بعضها مؤقّتًا، أجمل من أنْ تُعكِّر المناخ البصريّ، الذي يمزج صُورًا فائقة الحساسية والجمال، بوقائع قاسية وحادّة وعنيفة، وإنْ يبقى عنفها مخفيًا في ذاتٍ وروح.

إنْ يكن التصوير بديعًا في التقاطه نبض الطبيعة وارتباكات الفرد وتحوّلات المكان، فإنّ للموسيقى (تيغران هامسيان) وتسجيل الصوت (ميتسوغو شيراتوري) والتوليف (ماسايا أوكازاكي وجو أوداغيري) حضورًا جوهريًا في إضافة جمال ومتع بصرية وسمعية. هذا ليس تفصيلاً عابرًا. التكامل بين هذه الفنون كلّها، مع الأداء الرائع لأكيرا إيموتو تحديدًا، يُنتج فيلمًا يعكس لحظات حسّاسة في سيرة رجل، وفي معنى عزلته المعرّضة للانقراض، وفي رغباته المكبوتة، أو تاريخه الذي يُثقِل عليه من دون أن يتفوّه بقولٍ أو نكدٍ أو إساءة. فالتوازن بين يوميات روتينية وبناء الجسر، الذي يُسمع ضجيجه بخفرٍ لكن ببراعة سينمائية تقضي بعدم غلبته، بل بجعله أقرب إلى السكينة كي تزيد فاعلية إزعاجه وإثارته قلقًا لدى تويتسي؛ والتوازن بين هذا كلّه وجمال طبيعة منكوبة بآلات الحداثة التي تُبدِّل بعض معالمها، واستخدام دقيق للموسيقى من دون الإسراف به فتأتي المقطوعات في لحظات محدّدة؛ هذا كلّه يجعل "لا شيء يقولونه يبقى كما هو" متناغمًا وتشعّبات النفس الفردية في مواجهة متغيّرات وأحداثٍ وتفاصيل.

الفعل الجُرميّ الذي يُروى عنه أثناء التنقل بين ضفتيّ النهر، على مسمع من تويتسي، لن يظهر أبدًا. لكنّه يُساهم في إضفاء مسحة ثقيلة من القلق والرغبة في المعرفة والتباس الحالة. تُرى ما هو الحدث الفعلي هذا، في القرية المجاورة؟ هل للقرية المجاورة علاقة بالشابّة، التي تعكس ملامح وجهها براءة مخيفة وصدمة عنيفة في الوقت نفسه؟ من هي هذه الشابّة الجميلة، المليئة بالغموض والصمت؟ ما الذي سيحصل مع انتهاء بناء الجسر؟ أسئلة كهذه تنفلش على مسار حكائي وسرديّ، وعلى أحوال شخصيته الرئيسية والشخصيات الأخرى، وعلى المناخ العام، الجغرافي والإنساني والانفعالي والشاعري.

"عندما يأتي شيءٌ جديد، تندثر الأشياء القديمة. هكذا هي المسألة". أيُمكن لقولٍ كهذا أن يختصر النص السينمائي، وحكاية تويتسي، ومشاهداته اليومية، وحضوره المعلّق في تناقضات ونزاعات؟ وماذا عمن يأتيه فجأة، ذات ليلة ماطرة، طالبًا منه مساعدته لنقل جثمان والده المتوفّى قبل قليل، لتحقيق أمنية الراحل، والأمنية بحدّ ذاتها تملك دلالات تحرّض على التأمّل بأحوال وانفعالات ووقائع عيش ومسارات ومصائر؟ فالأب صيّاد ماهر، يوصي ابنه بضرورة أن ينقل جثمانه إلى أعلى الجبل، ويتركه هناك طعامًا لحيوانات ستلتهمه في العراء. بهذا، يريد التكفير عن صيده الوفير.

جمال الطبيعة يُخفي وحشيتها أيضًا. التوازن بين سكينة ظاهرة يعيشها تويتسي واضطرابات ذاتية كثيرة فيه، تُشبه ذلك التناقض في ذات الطبيعة. جو أوداغيري فنّان قادم إلى السينما من التمثيل والموسيقى، فيُثير تماهيًا مع نصّ مليء بالارتباكات والتمزّقات.
دلالات
المساهمون