تنطوي مهنة المؤرِّخ غالباً على مخاطرة جسيمة مهما بدت زيارته الاستطلاعية متأخرة لمسرح الأحداث في سبيل معرفة ما جرى وما يزال يقع إلى الآن، أو مساءلة ما لم يحدث بالأمس وما يزال إلى اليوم متعذّراً عن الإمكان، فكل رحلة إلى الماضي ليست بالآمنة أو المحسوبة العواقب، لا سيما إذا كانت الوجهة المقرَّرة واحدة من بؤر التوتر الأكثر دموية في العصر الحديث: فرنسا ما بين 1610 و1659، حيث يبدو هذا الشاهد المتأخر بالضرورة - لأن "الزمن يركض ودائماً من موقع آخر من الزمن نحاول فهم شيء ما حدث" - مقتحماً منطقة ألغام تتحوّل فيها كل خطوة إلى مغامرة تحبس الأنفاس. لكن من حسن حظ المؤرخين أنهم يتسلّحون بعلبة أدوات ثقافية تتيح لهم نزع الفتائل والنوابض، وتعطيل الألغام النائمة التي يعرفون أكثر من غيرهم أنها قد تزداد فعالية وحساسية بمرور الزمن.
يقترح كتاب "أسباب الكراهية: قصة نزوع سائد بفرنسا في أوائل القرن السابع عشر" للباحث الفرنسي يان رودييه (1982) - الصادر بداية السنة الجارية عن منشورات "شان فالون" ضمن سلسلة "إيبوك" (أزمنة) على مدار 478 صفحة - قراءة عميقة لا تختزل التاريخ في سلسلة من الأحداث والوقائع؛ بل يبرزه كإمبراطورية من المشاعر المتصلة والأهواء المتناقلة في الزمان والمكان. إنها محاولة فكرية جادة لترسيم حدود هذه الإمبراطورية الشعورية المترامية الأطراف، وتضميد الجراح المفتوحة الساخنة، والدفع باتجاه التسامح والسلم وقبول الاختلاف. والكراهية، هنا، ليست نقيضاً للحب بما أنها في العمق "صون للعلاقة مع الآخر"، وهي عبارة عن هرم مقلوب ينبغي إعادته إلى وضعه الطبيعي.
الدخول إلى متاهات هذا الكتاب المتشعّب يشبه الإبحار على متن سفينة شراعية تشتغل بقوة الرياح، وكثيراً ما تضطرّ إلى تغيير مسارها أو التوقف في عرض المحيط ريثما تستأنف التقدّم في الاتجاه المرغوب. يبدو المؤلف حريصاً على تجهيز قارئه بأشرعة قوية مثبتة جيداً على الصواري للمضيّ قدماً في بيئة مضطربة حاضنة للأصول والمستقبل، القريب والبعيد، الآخر والمماثل.
بهذه الجملة، يبدأ الكتاب؛ مباشرة يضع رودييه القارئ "في 24 أيار/ مايو 1610. متطرف كاثوليكي يدعى رافاييلاك يتخذ قراراً خطيراً بعيْد سرقة سكين من نزل على وجه السرعة، ويعترض العربة الملكية العالقة في زحام شارع دي لافيرونير بباريس، ليتمكن من اغتيال ملك فرنسا المتحوّل مؤخراً إلى الكاثوليكية والناجي قبلها من سلسلة محاولات اغتيال متتالية ومدروسة جيداً. تهبّ باريس من قيلولتها على مشهد مروّع يستعصي على التصديق حتى من المخرج والممثلين والديكور المسرحي: رافاييلاك المستسلم بسكين تقطر دماً، مرافقو العربة الملكية المتوقفة، المدينة التي فتحت بالكاد جفونها النائمة، وذعر الجمهرة المتحلّقة؛ وحده جسد ملك فرنسا هنري الرابع المسجّى على الأرض مضرَّجاً في دمائه بهدوء مريب أمام نزل "قلب متوّج يخترقه سهم"، كما لو يعرف بمكان وزمان النبوءة المقرّرة سلفاً".
ويتابع رودييه سرده: "على وجه السرعة أيضاً يتمّ تجهيز وتنصيب لويس الثالث عشر في الثامنة من عمره تحت وصاية الملكة ماري دي ميديتشي (فترة الوصاية بين 1610-1614) المشتبه أنها أحد العناصر المدبرة لهذه المؤامرة، مما ساهم في إذكاء الصراعات العائلية بين أفراد الأسرة الحاكمة انتهت باغتيال المارشال كونشينو كونشيني والمتنفذ السياسي المقرَّب من الملكة في 24 نيسان/ أبريل 1617 بثلاث طلقات، ما بين العينين وعلى الخد والعنق، والاستيلاء على السلطة بالقوة من طرف الشاب لويس الثالث عشر ونفي والدته الملكة، في أجواء السلام الهشة التي طوّحت عالياً بروزنامة "مرسوم نانت" الذي حاول منح الحقوق الدينية والمدنية والسياسية للبروتستانت، وتنظيم التعايش القسري بين الكاثوليك والإصلاحيين، بعد ستة وثلاثين عاماً من الحروب الدينية (1562-1598) التي دمّرت مملكة فرنسا وتسبّبت في "تعثر النظام الملكي والدولة". طلائع حرب الثلاثين (1648-1681) تلوح في الأفق من بعيد ولا أحد يقدر على إيقاف مدّها في مجمل القارة الأوروبية التي ستنتقل من الحروب الدينية إلى الحروب الأهلية الأكثر بشاعة في عهد الكاردينال ريشليو (1584-1642) والكاردينال مازاران (1602-1661)".
لا ينسى المؤلف أن يقدّم صورة رشيقة للشخصية النكرة التي تسبّبت في كل هذه التقلّبات، فيكتب: "بعيداً عن كونه مجرّد خروف شارد، يرمز رافاييلاك إلى الكراهية العامة المستشرية في القلوب ضد الملك". وفي إضاءة للسياق الجديد، يقول رودييه: "في رفة جفن تحولّ التنديد بالاستبداد في عهد هنري الرابع إلى إدانة بالإجماع لمقتل الأب" وقد تحوّل الملك بين عشية وضحاها وبمقتضى كيمياء التدنيس والتقديس التي مارستها أجهزة الدولة بمهارة من "ملك مبغوض إلى ملك محبوب". سيحاكم رافاييلاك كمختل عقلي رغم تأكيده أمام المحكمة أن دافع جريمته كان تقاعس الملك عن القصاص من البروتستانت الفرنسيين بعد مجزرة سانت بارتيليمي (24 آب/أغسطس 1572) التي راح ضحيتها آلاف القتلى.
اتسمت المرحلة التي يصوّرها رودييه بالصخب والعنف؛ في العلن من قبل عامة الشعب بجميع شرائحه ومكوّناته المنفرطة، وفي الخفاء من خلال الدسائس والمؤامرات التي تضجّ بها القصور والكنائس ومراكز القرار العليا، في ما يشبه تراجيديا أوروبية شاملة بأبطالها المهرولين الذين قفزوا من عوالم شكسبير (المعاصر لهذه الحقبة التاريخية) ناقلين عدوى الفوضى والشغب ولعنة المصائر المتداعية من الخشبات إلى مسارح الحياة السياسية والاجتماعية.
يشير رودييه أن هذه الأجواء المحتدمة دفعت إلى محاولة حماية هشاشة التعايش السلمي بين مكوّنات المجتمع، وهي فترة شهدت "ولادة عسيرة لخطاب يفكّر في العنف ويحاول جبر ضرره؛ حيث جرى تحديد الكراهية كمصدر للعنف بين الأشقاء في المدينة ابتداء من وصاية ماري دي ميديتشي (1610-1614) إلى وزارات الكاردينال ريشليو ووزير الدولة مازاران.
هذه اللحظة هي لحظة ميلاد علم جديد: "أنثروبولوجيا الأهواء"، حيث يقول رودييه: "الحرب الأهلية ليست سوى ترجمة اجتماعية لما يحدث داخل كل شخص: الحرب الداخلية بين المشاعر والعقل التي تصوّرها أكريبا دوبينييه (1552-1630) في عمله المسرحي "التراجيديات"، حيث يتجسدّ التهديد المستمر بعودتها في مملكة هشّة بسبب سياق الوصاية وتجدّد تمردات الأمراء". أكثر من ذلك تعبّر الكراهية عن "البربرية" المتأصلة في الجنس البشري.
إذا فكّرنا بمفردات الحاضر، سنخطئ جميعاً عندما نعتقد أن حالات التهييج العقائدي تأتي نتيجة الشحن الإعلامي؛ حيث يبيّن الكتاب أن "محترفات" النصف الأول من القرن السابع عشر، أي أجهزة الدولة التي تستوعب المثقفين والفلاسفة والكتّاب أيضاً، كانت قادرة على مثل هذا الشحن وتوجيه الرأي العام، أو بعبارة أخرى تنظيم "الأهواء العامة" وتعليب وصناعة "مجموعات انفعالية" على المقاس يسهل توجيهها.
من هنا يقترح علينا رودييه إعادة التفكير في مفهوم "منطق الدولة" ومدى صلاحيته ونجاعته في استيعاب وتفسير جميع الظواهر الاجتماعية والأنثربولوجية والنفسية، مقترحاً مفهوماً جديداً يتمثل في "نزوع الدولة"؛ فلكل دولة نزوعاتها وأهواءُها الخاصة التي تحاول تسويقها وفرضها على مواطنيها عبر "الحملات الإعلامية" والدعائية الشرسة التي تشحذ لها كافة مواردها المعنوية والمادية. هكذا سنلاحظ على امتداد فصول الكتاب تحرّيات دقيقة عن كيفية عمل ورشة التشنيع الهائلة المتخصّصة في صناعة "أعداء الدولة" الذين يتمّ تحديدهم وفقاً للمصالح المؤقتة.
"ما هي باريس؟ جنّة النساء ومِطْهر الرجال وجحيم الخيول. ما هو الزواج؟ استشهاد الأحياء. من هو الأمير؟ مجرم لا يجرؤ أحد على معاقبته. من هو اليسوعي؟ سياسي حكيم يستخدم الدين بمهارة". إنها عبارات من ذلك القرن ولكنها تشبه صيغ آلاف التغريدات والتدوينات المنتشرة اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي. كانت هذه مناشير يصوغها كتّاب في الخفاء ثم تنطلق مطلع كل يوم "كأسراب الذباب والدبابير المفرقعة في الحرارة الشديدة"، من أروقة البلاط إلى بقية المدينة متخذة من الهجاء والإشاعة والتشهير أسلحتها الفتاكة للنيل من الآخر بلغة غاية في البساطة والرداءة.
عَرف هذا النوع من الكتابة أوج ازدهاره في عهد الوزير ريشليو (في فترة حكم الملك لويس الثالث عشر)، وهي كتابة - كما يشير رودييه - لم تكن دائماً رديئة، من منظور أدبي، حيث نعثر أحياناً عن قطع نثرية أو شعرية فريدة؛ لكن الأهم من ذلك بالنسبة للمؤرخ أن هذا النوع من الكتابة يمثّل مادة نفيسة ترسم العلاقة المتوترة بين السلطة والشعب، والسجال الدائر بين الطرفين وطرق استغلال ماكينة التشنيع وصناعة العدو.
لم يكن المؤرخ خلال هذه الرحلة الاستكشافية مجرّد نزيل عابر يتردّد على غرف الفنادق التاريخية ودهاليز خزانات الوثائق والمحفوظات بفرنسا، ولم يكتف برفع نُصب تذكارية، كما نطالع في الكتب التاريخية التقليدية، بل أطلق العنان للشخصيات الشهيرة منها والأقل شهرة كي تتحرّر من نواميس الكتابة التاريخية، وجعلها تستعرض أمام أعيننا جدارية صاخبة الألوان، ممّا يجيز لرودييه أن يمسح نظارتيه براحة بال من غبار التاريخ ورشاش الدم فقد نجح في ما يصبو له كل مؤرِّخ جاد: أن يكون حاضراً في زمنين، زمن قرّائه وزمن مادته التاريخية، ولعله يعرف أن بعضاً من الشخصيات التي استحضرها في هذا الفصل التاريخي ما تزال حيّة في زماننا، تتحرّك في إمبراطورية المشاعر والأهواء التي لا تغيب عنها الشمس.