"أرض العسل": ماستر كلاس في صناعة الفيلم الوثائقي

05 مارس 2020
+ الخط -
في 86 دقيقة، يأخذنا الفيلم الوثائقي (Honeyland) في تجربة فريدة من خلال الغوص في الحياة الصعبة والمريرة لمربية نحل وأمها ذات الـ85 عاماً. الفيلم من مقدونيا الشمالية، ومن إخراج تمارا كوتيفسكا ولجوبومير ستيفانوف، وصُوِّر خلال 3 سنوات، وجرى توضيبه من أصل نحو 400 ساعة من اللقطات، وهو أول فيلم يترشح لجائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي، وأيضاً أوسكار أفضل فيلم أجنبي في ذات السنة.

تتبع كاميرا المخرجين مربية النحل (هاتيتزي) ذات الـ55 ربيعاً، باعتبارها آخر مربية نحل في عائلتها، وآخر مربية للنحل البري في أوروبا. لم يسبق لـ(هاتيتزي) أن تزوجت ولا أن أنجبت أطفالاً، فهي تسكن في كوخ صغير مكون من غرفة واحدة مع أمها المريضة الطاعنة في السن.

تحاول شخصيتنا الرئيسية في هذا الفيلم الوثائقي المتميز أن تنقذ النحل وتعيد التوازن البري في بيئتها، فقد خلقت هذه المرأة القوية نوعاً من الحياة يتطلب القليل فقط من العالم الخارجي. فهي تعيش بعيداً عن المجتمع البشري، والشيء الوحيد الذي يعتبر نوعاً من التواصل البشري الذي تحتاجه وترتبط به يومياً، هو وجود أمها بجانبها، لكن رغم ذلك فهي محتاجة أكثر للعلاقات الإنسانية، لذا فقد وجدت ضالتها عندما انتقلت إلى جوارها عائلة بدو الذين هم مربو نحل بدورهم.


أصبحت هاتيتزي سعيدة بعض الوقت، لوجود عناصر بشرية قريبة منها، لكن ما إن بدأت ملامح من الجشع والطمع تظهر من العائلة الجديدة، أضحت طريقة حياتها مهددة، وأصبح التواصل الإنساني بينهما في طريقه للتباعد والافتراق، وأصبح رزقها ونحلها مهدَّدَين أيضاً.

الفن السابع بطبيعته هو نافذة إلى عالم آخر، نافذة تأخذنا إلى عوالم إنسانية أخرى، من خلال البحث عن دراسة شخصيات تعيش في حياة مصغرة عن هذه العوالم. وهذا الفيلم ما هو إلا مثال حيّ على ذلك، فهو دراسة مميزة لشخصية نسائية قوية وللموقع والمكان الخلاب الذي تعيش فيه، هذا المكان ساهم بشكل كليّ في جمالية التصوير السينمائي للفيلم.

استطاع الفيلم إحضار معنى للحياة داخل معضلة إنسانية، كيف يمكن الإنسان أن يتوافق مع عالمه المليء بالمشاكل والأحزان؟ وإلى أي حد استطاعت هذه الشخصية القوية في هذا الفيلم الوقوف بشجاعة أمام المصائب المتتابعة في حياتها البسيطة؟

لذا، يقودنا الفيلم إلى مكان آخر، إلى ممر مختلف عن العالم الموجود في المدينة ليروي لنا قصة مختلفة عن حياة هذه المرأة التي لديها مجموعة من الأحلام غير المحققة وصعبة التحقق، لكن ما يجعلها تأمل في المستقبل، هو تلك العلاقة المتميزة التي تجمعها بوالدتها من جهة، وعلاقتها بالطبيعة الأم من جهة أخرى، فالنحل هم أصدقائها عندما لا تجد أحداً بجانبها.

"لقد أصبحت شجرة"، هكذا تردد أمها العجوز عندما تحدث بينهما تلك المشاجرات العائلية البسيطة والتي هي في الواقع تعبير عن الحب الكبير التي تكنه هاتيتزي لوالدتها، مثل هذه المشاهد هي ما تجعل هذا الفيلم عبارة عن (Cinéma Vérité)، أي لا وجود لتعليق (Voice Over)، ولا وجود لحوارات أمام الكاميرا، فقط حضور ودراسة لشخصيات إنسانية متميزة وقصة حزينة عميقة، لكن في الآن نفسه مليئة بالكثير من الأمل.

تتموقع الكاميرا في أفضل الأماكن لتعطينا صوراً جميلة مزخرفة، حيث حتماً سيتساءل المشاهد عن كيف أن الكاميرا تتمكن من أن تكون في المكان المناسب وفي الوقت المناسب أيضاً، إذ إن المخرجين يقتنصان كل إحساس لهاتيتزي، كل لحظة حزن أو لحظة فرح، أو حتى لحظات الندم بطريقة احترافية، وتمكنا أيضاً من التقاط ووصف الوحدة والخطر الموجود بشكل شبه دائم في حياتها. فالفيلم الوثائقي ما هو إلا فن عميق، عميق عمق الدواخل الإنسانية، وبالتالي فإننا نحسّ بتلك العبقرية الفنية في اعتناء هاتيتزي بنحلها، فهي تحبه، تعشقه؛ وكأنها أنشأت معه علاقة صداقة، هذه الأخيرة قد افتقدتها مع البشر، فهي ترقص مع نحلها ونجد نحن في ذلك نوعاً من الدهشة والتعجب.

فيلم (Honeyland) فيلم وثائقي صادق وحسّاس، ومن أفضل الأفلام الوثائقية التي شاهدتها في حياتي.