من النادر جداً أن يمر اثنان وسبعون عاماً على وقوع حدث تاريخي ما دون أن تتلاشى أو تتراجع آثاره السياسية والاجتماعية والإنسانية. هذا ما يرفع النكبة الفلسطينية، التي يحيي الفلسطينيون والعرب ذكراها في كل عام، من حدث تاريخي مضى إلى عملية استعمارية متواصلة لا تني تولد آثاراً على الفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم. لم تتوقف معاناة اللجوء وتوريث صفة "عديم الجنسية" للأطفال والأحفاد منذ النكبة، وكذلك الأمر في ما يتعلق بمعاناة ونضال الفلسطينيين داخل أراضي فلسطين من أجل حق تقرير المصير.
والحال أن ذلك مرتبط بالعقلية والممارسات الصهيونية التي لم تتغير رغم مرور اثنين وسبعين عاماً كرست خلالها الدولة الصهيونية نفسها كقوة إقليمية مدعومة من الدول الغربية. لا تزال عقلية "التطهير العرقي" التي كانت في صلب حدث النكبة وأساس تأسيس دولة إسرائيل هي المرشد الرئيسي للسياسة الإسرائيلية اليوم. "أنا أدعم التهجير القسري ولا أرى أي جانب غير أخلاقي فيه"، أعلن ديفيد بن غوريون من دون مواربة في أعقاب النكبة. لم تقتصر استراتيجية نزع الملكية وطرد السكان الأصليين على الصقور فقط بل شملت الحمائم أيضاً. حتى "شهيد السلام" إسحق رابين الذي اغتيل على أيدي الجماعات الصهيونية الأشد تطرفا لم يجد حرجاً في المجاهرة بأنه "كان من الضروري للغاية" طرد السكان الفلسطينيين.
يستدعي ذلك إنتاج روايات صهيونية تحاول طمس أو التشويش على حقيقة النكبة، وهنا تنشر إسرائيل روايتين. تتوجه الأولى للغرب وللجاليات اليهودية والتي تتمتع باطلاع ضعيف على الوقائع التاريخية وبالتالي يجري إسقاط مسألة التطهير العرقي من الصورة تماماً من خلال الادعاء بأن أرض فلسطين كانت من دون سكان لدى وصول الصهاينة: "أرض من دون شعب لشعب من دون أرض". أما مخاطبة الفئة المتيقنة من وقوع التطهير العرقي فتجري عبر التركيز على فكرة أن "الحرب" كانت مسألة وجوديةً "للعرق اليهودي" في محيط عربي بربري. تنسج هذه الرواية صورة عن الفلسطينيين بأنهم "غير عقلانيين" وتستخدم قضية رفض قرار تقسيم فلسطين في العام ١٩٤٧ كمثال على "تطرفهم". وللأسف، يبدو مثال رفض قرار التقسيم رائجاً حتى لدى ثلة من المثقفين العرب المتأففين من "العقل العربي الضدي" الرافض للمساومة، في ظاهرة تحجب التفاصيل التاريخية الضرورية فلا تتم مناقشة لماذا يجب أن يتنازل سكان فلسطين العرب، الذين شكلوا سبعين في المائة من السكان في ذلك الوقت، عن نحو ستين في المائة من مساحة أراضيهم لنحو ٣٠ في المائة من المستوطنين الذين قدموا من كل أنحاء الأرض في تلك الفترة. يبدو قرار رفض التقسيم لأي مراقب يتمتع بحس محدود من العقلانية والعدالة في ذلك الوقت "عقلانياً للغاية".
أدركت الحركة الصهيونية منذ بداياتها، إذن، أن نجاحها في استيطان فلسطين مرهون بطرد السكان الأصليين. كان هذا تكتيكاً استراتيجياً تم التوصل إليه قبل نحو عقد من وضعه موضع التطبيق في العام ١٩٤٨. في حرب حزيران ١٩٦٧، عملت أيضاً على تطبيق ذات السياسة المتمثلة في "أراضٍ أكثر فلسطينيون أقل" وانتزعت مزيداً من الأراضي ولكن هذه المرة مع سكانها الفلسطينيين في الضفة الغربية. حتى أن ليفي اشكول، رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت وعندما سمع خبر احتلال مدينة القدس قال لمن معه: "حصلنا على مهر كبير جداً"، قاصداً الأراضي المنتزعة وخصوصا القدس، "ولكنه جاء مع عروس لا نرغب بها"، أضاف اشكول قاصداً السكان الفلسطينيين. حاولت إسرائيل طرد الفلسطينيين من الأراضي المحتلة أيضاً، فانطلقت المركبات العسكرية بمكبرات الصوت تهددهم وتحثهم على المغادرة وتطلق النار وتهدم عددا من البيوت بصورة عشوائية. ولكن معظم السكان قرروا تحدي إرهاب الدولة والبقاء بأرضهم ليشكلوا اليوم العقبة الكأداء في وجه سياسات إسرائيل المتمثلة في ضم أراضي الضفة الغربية من دون سكانها. قد لا تسمح توازنات القوى الحالية في منع إسرائيل من ضم مزيد من الأراضي، ولكن يجب منع محاولات التخلص من السكان والتي لا تجري فقط من خلال إرهاب الدولة المنظم بل أيضاً من خلال اتفاقيات السلام، ومنها "صفقة القرن"، التي جرى ابتكارها لهذا الغرض بالتحديد.