كردي على بساط الريح

15 يناير 2015

أكراد سوريون يراقبون القتال في كوباني عند الحدود (نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
المذيع يشبه المغني المعروف "شفان" لحيةً، وزيّاً، وهو زي البشمركة الذي يرتبط بالحرب والكفاح، وشعلة الجراح. لم أدرك مقدمة البرنامج على إحدى الفضائيات الكردية، حتى أعرف اسمه. هو برنامج استطلاعات وتحقيقات يزور القرى الكردية، ويلتقي الناس، ويملأ صفحات الوقت البيضاء. الفضائيات الكردية تصدر لمشاهدها فواصل طويلة عن القرى والبلدات الكردية، وهي قرى تشبه قرى بنغلاديش وأفغانستان فقراً وشحوباً. أوساخ في الشوارع، أشجار نادرة ويتيمة، برك.. لكن الكردي يحب الوطن. الوطن لا يكتمل إلا مع أمرين، هما العَلَم ورقصة كردية جماعية.
المذيع شاب، يتحدث مع مدرِّسة عن التعليم ومصاعبه، ينهي المقابلة، ويودّعها، فينهض له التلاميذ في نشيد وداعي كردي مسجوع، أسوة بطلائع البعث السورية، شبراً بشبر، وهتافاً بهتاف. يمشي المذيع في شارع القرية، والشوارع في القرية، فكلها شوارع تعترضها بيوت عشواء، فيعثر بقروي يرتدي فروة شتائية، يسلّم عليه ويصافحه. القروي طويل، أطول من المذيع بشبر ونصف، يضع المذيع يده على كتف القروي، علامة على التواصل الأخوي طبعاً. رتبة المذيع تخوّله ذلك. ويطالب القروي أن يقدم نفسه للمشاهدين. المسافة تقترب من الصفر بينه وبين القروي، يعبث المذيع بفروة القروي، وكأنّ المذيع سائح يرى أول مرة فروة، أو كأن القروي يرتدي زي هنود حمر، لكن السائح، عادة، يكون خجولاً، ومتحفظاً. يسأله عنها، وهو يجسُّ سماكة الفروة يميناً ويساراً، يحدث قطع مونتاجي، ثم نرى المذيع مرتدياً الفروة التي تغمره سابغة! القروي يقول إنها من صوف الأغنام، فهناك فروات من صوف صناعي. هذا والله كلام العين للعين، وسلام الله على الأغنام.
القرية الكردية خالية، السماء صافية، أجمل ما في القرية هو السماء، ومساحات شاسعة، وبرك من الماء والطين، وبضع إوزات تسبح، وامرأة تخبز على التنور. يهجم المذيع بكاميرته على المرأة الكردية، ويكاد أن يغرق، هو والمشاهدين، في الدخان.
تشرح المرأة أنها لا تخبز إلا في حالات الطوارئ، تمنيت لو أنه بقي معها، ويسألها عن العجن والخميرة، وأنواع الخبز، وهو نوع واحد. لكن، بسبب قنابل الدخان غير المقصودة التي يقذفها التنور، لعلّه مستعجل. يتقهقر المذيع البشمركة، فنجده جالساً مطولاً مع عجوز كردية: يبدأ التحقيق غير الأمني: اسمك؟ كيف كنتم تتزوجون أيام زمان؟ حدثينا عن العرس يا... شهرزاد.
ثمة مثل مشهور اسمه "جراب الكردي"، وهو مثل تبخيسي، اخترعته الشعوب المجاورة، الأكراد أنفسهم يطلقون المثل على الغجر. لكن، على برغلهم، فيقولون مثل برغل "القرج". لي صديق يظهر محللاً سياسيّاً على ثلاث أو أربع محطات كردية يوميّاً، من غير أن تقاطعه المذيعة أو المذيع، فيحاضر، ما شاء أن يحاضر ويخطب، لكنه يطمح إلى الكتابة بالعربية، أرسل لي تحقيقاً عن نازحي كوباني في تركيا، يستمزجني، فعبت على المقال كثرة الأخطاء النحوية، فصرخ: غير معقول، كيف وقد تناوب عليه معلما لغة عربية تصحيحاً وتصويباً! المشكلة الكبرى هي في الصياغة الأسلوبية. أنت محلل سياسي، وزعيم كردي، أكتب بالكردية، الكتابة بالعربية تحتاج إلى احتراف ومعرفة، وهو عليك مشقة، فقال لي: يا أخي كوباني مظلومة، ولا أحد "ينتبه" إليها. وكاد أن يبكي.
لا أعرف ما العلاقة بين المذيع البشمركة وصديقي الحزين على كوباني. ربما ثمة علاقة مؤكدة. والخلاصة: كان البرنامج ممتعاً لمشاهد ضال.. مثلي!

دلالات
أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر