الحب قادر ونحن غلابا

18 ديسمبر 2016
+ الخط -
اختص بعضُ السوريين، في أثناء حصار حلب وسقوطها، بإلقاء الحِكم والمواعظ علينا، ودعانا بعضُهم الآخر إلى استخلاص العبر مما يجري أمامنا على الأرض. وآثر فريقٌ منهم ما سماه محمد الماغوط "النواح والندب" ومَسْح المناخير بالأكمام، وتفرّغت مجموعة منهم للبسملة والحوقلة والتضرّع إلى الله تعالى بأن يحمي عباده الذين يتعرّضون للإبادة، وأما الذين يمتلكون فائضاً من الذكاء والألمعية، فأصبح عملُهم منحصراً في الفلسفة، والتنظير، وإلقاء المحاضرات علينا، نحن المواطنين المساكين الذين ينطبق علينا ما كتبه الشاعرُ محمد حمزة ولحنه بليغ حمدي وغناه محمد رشدي: الحب قادر وإحنا غلابا.
نحن غلابا، نعم، ولكنَّ غُلْبَنَا لا ينتجُ عن الحب، وإنما بسبب غيابه. ولعل بإمكاننا أن نكتشف، بقليل من التفكير الهادئ، أن الحب يكونُ موجوداً، وغامراً، وحنوناً في الأحوال العادية والطبيعية، وأما في الحروب، فلا ينتفي وحسب، بل يتحول إلى كراهية، وحقد أسود. سأضرب لكم مثلاً: في حرب يوليو/تموز 2006، وبسبب العنتريات التي كان يمارسُها حسن نصر الله، شَنَّتْ إسرائيل حرب إبادةٍ ماحقةٍ على لبنان، فلم تُبْقِ، خلال 33 يوماً، ولم تَذَرْ،... وفي حين أن عناصر حزب الله كانوا متحصنين في الدشم والبلوكوسات، ووراء المتاريس، ترك المواطنون العزّل المساكين بيوتَهم وفرّوا باتجاه سورية... ههنا فَعَلَ الحب الإنساني العظيمُ فعلَه السحري، إذ أتى السوريون من كل فج عميق ليستقبلوا إخوتهم اللبنانيين، ويواسوهم، ويضمدّوا جراحهم، ويؤمّنوا لهم الطعام والشراب والمسكن، من دون مقابل مادي في أغلب الحالات، حتى إنني سمعت عن حادثة جرتْ في قرية سيجر، في حافة الجبل الغربي في محافظة إدلب، هي أن أرباب العائلات اللبنانية الثلاث التي أوت إلى هذه القرية، ذهبوا إلى المختار، وقالوا له: نرجوك قل لأهل القرية أن يكفوا عن تقديم المساعدات لنا، إذ لم يبق لدينا مكان نضع فيه المفارش، ولا قِبَلَ لنا بتناول مزيدٍ من الأطعمة والحلويات.
هذا معروف، بل وشائع، لكن الفكرة التي أعتبرُها جديدة وتستحق الاهتمام أن أهل جنوب لبنان، لو كان الوضع طبيعياً، لاستقبلوا أهل سورية الهاربين من براميل ابن حافظ الأسد وصواريخه بأحسنَ مما استقبلهم إخوتُهم السوريون، ولكنهم، يا حسرات قلوبهم، واقعون تحت احتلال حزب الله، وزعيمِه حسن نصر الله الذي أوصل إليهم الأوامر الإيرانية أن كل الذين وقفوا في وجه ديكتاتورية آل الأسد في سورية إرهابيون ووهابيون وتكفيريون، ومن ثم لا يَقْبَلُ منهم الولي الفقيه ونصر الله التعاطف معهم، أو إيواءهم، ولا حتى الوقوف على الحياد تجاههم، وما عليهم سوى أن يتسلحوا ويذهبوا لقتالهم، بل: لقتلهم.
فكرة أخرى أوردها الصديق الناشر خالد سليمان الناصري، إذ قال إن الرئيس صدام حسين قتل، خلال انتفاضة 1991، من مائة إلى مائة وثمانين ألف عراقي، كان ذنبُهم الوحيد أنهم ثاروا عليه وأرادوا الحرية. قُتل هؤلاء يومئذٍ على مرأى العالم وسمعه وعماه وصمته، فما هو السبب الذي يدفع بعضاً الآن إلى تأييد نجل حافظ الأسد الذي يمارس نهج قاتلهم، وأن يستهزئوا بالضحايا، بعدما كانوا هم الضحايا؟
قد يلجأ أحد المتفذلكين اليوم إلى استخدام المماحكة والمنطق الصوري، فيقول: لماذا تلومون أهل جنوب لبنان وأهل جنوب العراق إذا أيدوا القاتل المجرم الأسد، إذا كان هناك سوريون، بل حلبيون مقيمون على بعد أمتار من حلب الشرقية التي قُتل أهلها وهدمت منازلها، قد قرعوا الطبول ونصبوا الدبكات؟
نقول لهؤلاء: هذا هو لبّ الحكاية، فحينما يكون، في بلدٍ ما، نظامٌ يعلّم شعبه على البغضاء والكراهية، ويعمل ليلاً ونهاراً على إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والقومية، ينتفي الحب، وتتحقّق مصالح الطغم الحاكمة والغزاة، ونموت، نحن الغلابا، من دون أن يطالب أحدٌ بدمنا.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...