الأغنية الشبابية السورية خلف الشارب واللحية

29 سبتمبر 2024
أصدر الشامي أخيراً أغنية "دوالي" (فيسبوك)
+ الخط -

من المدهش أن يحظى فيديو كليب للتيكتوكر السوري، وائل إدريس، عنوانه "أحقر حدا" رُفِع على يوتيوب منذ نحو أسبوعين، بما يُقارب مليونين ونصف مليون مشاهدة، ولا سيما عندما يمكن تأوّل المُحقَّر المخاطب على أنها امرأة. أم لعلّ ثيمة الأغنية، التي كتبها إدريس بمشاركة طارق حسكي ولحّنها بنفسه، قد أتت بفعل صدمة الهَجْر أو الهجرة، التي تُهيِّج في نفس المهجور هيستيريا، تعطّل سلطان العقل وتنتهك سيادة الأدب؟ 

لا يمكن تأمّل الدنوّ الذي بلغه النص بدءاً بالعنوان، من دون اكتناه ملامح أزمة ألمّت بالصورة وبالخطاب لدى الشباب السوري المتماهي ذكراً، حيال علاقته بالمرأة، أخذت تُخيّم بظلالها على علاقته بنفسه وبالعالم، عبر الأغنية.    

من نافل القول ههنا أنه لا يجوز التعميم. حتى ولو حقّقت "أحقر حدا" رواجاً وانتشاراً يبدو واسعاً، أقلّه على يوتيوب، فالسوريون من دون شك، مختلفون ومتمايزون في سِيرهم الذاتية وخلفيّاتهم الاجتماعية والثقافية. مع ذلك، يبقى لافتاً كيف أن الإنتاج السوري المعاصر للأغنية "الشعبية الجديدة"، ما انفكّ يطرح تمثيلاً للذكورة، يحمل سمات الفحولة المفرطة، سواء لجهة الهيئة والنبرة، أو اللغة والعبرة. 

في فيديو أغنيته "يا ريف العين"، الذي لم يمضِ على رفعه عدّة أسابيع، حتى تخطّت مشاهداته سبعة ملايين، يظهر أمجد جمعة مُحتكراً الشاشة لنفسه كلّ المدة المناهزة ثلاث دقائق. من خلف لحية بارزة مشذّبة وبنظرة "زغرتية"، يغني مقطع المُقدمة الأول، مخاطباً الفتاة: "يالبريئة". 

في المقطع الثاني، يتساءل "ما الطريقة؟"، بعد أن تمكَّنتْ من أن تتخطّى حدودها، فتحتلّ قلبه "في 30 دقيقة". أما في الكوبليه، وبحنجرة جهيرة على إيقاع البلدي الإلكتروني، فيتغزّل بجسدها بتأثيث محاسِنهِ، واصفاً "خصرها المنحوت بحرفية" وأظفارها المصفوفة كالماس. للفحولة واختبارها بوضعها على محكّ العشق، جذورٌ ضاربة في الشعر الغزلي العربي منذ ما قبل الإسلام أو ما يُسمّى "الجاهلية"، الذي إن وُضع في سياقه التاريخي، فإن لبعضه أن يُعدّ من نفائس الأدب الإنساني. 

من تلك الجذور، وإن سطحياً واستهلاكياً، يُستوحى فيديو أغنية "دوالي"، إخراج فادي حداد. يظهر فيه المغني الملقب بـ"الشامي" فارساً عتيّاً كحيل العين، ضمن مشهدية سينمائية تمزج ما بين الدراما البدوية الأردنية، التي راجت في الثمانينيات، والفانتازيا التاريخية السورية، التي تصدّرت دراما التسعينيات، والسلسلة الهوليوودية الأخيرة من مغامرات الخيال العلمي، Dune إخراج الكندي دينيس دينوف.

سواء في نص الكلمات أو المشاهد، تُستعاد تنميطاتٍ معهودة لها تاريخ طويل عابر للثقافات، تتمثّل بها المرأة في صورة ساحرة مشعوذة، تمسّ بإغوائها قلوب الرجال، تلوّح في أفق الكثيب، كأنها سراب أو خيال، لتهزّ كيان الفارس المغوار، تُخرجه من خيمته، وتقضّ له مضجعه.

إلا أن الشامي، من كتب الكلمات ولحنّها، سيتحدّى المسّ الذي انتابه والسقم الذي أصابه، فيغني في الكوبليه باللهجة البدوية: "أنا ورد، بس نرجس، كلّي برد بس صعب أرجف، مش رمية نرد، أسمي كافي ليخلّيني عَجرف". 

يُحافظ اللحن والإيقاع في "دوالي" و"أحقر حدا" على طابع "الشعبي الجديد" المُهيمن على الأغنية السورية الجماهيرية منذ منتصف العشرية الثانية من القرن الحالي، فيما تستشف الأذن لدى التمعّن في ثنايا الخطاب المحمول على وقع القرع والدبك، ظلالَ ذُلّ وانكسار، تجرّها اللحى الخشنة والشوارب المفتولة. ثمة واقعٌ ما زالت تعيشه شريحة من الشباب السوري على مدار العقدين الأخيرين، سواء في بلد المنشأ أو المهجر، يتناقض مع مظاهر الفحولة المفرطة، التي تميل الأغنية الشعبية الجديدة إلى تصديرها. لذا، يمكن النظر إليه من زاوية أنه بمثابة تعويضٍ عن إحساس بنقصٍ في الرجولة وغيابها، أو إصابتها بتشوّه قِيَميّ، أكثر من كونه إبرازاً وتأكيداً لها. 

منذ أن وئدت الآمال بالتغيير السلمي، وانزلقت الاحتجاجات الشعبية إلى أتون حرب أهليه دامية، دَمَغَ الشعور بالهزيمة جيلاً كاملاً، ليعيش رضوضاً نفسية بالغة، ويكابد أوضاعاً اقتصادية قاسية، ويخضع لتحولات اجتماعية غائرة الأثر في الكينونة والوجدان.

تُستعاد تنميطات تتمثّل بها المرأة في صورة ساحرة مشعوذة

ولئن بات المهجر السوري على مدى عشرة أعوام مصدر الإنتاج الرئيسي للأغنية الجماهيرية، وفي الوقت نفسه، السوق الاستهلاكية الأكبر لها، فقد توجّه في مجمله شكلاً ومضموناً، إلى الشباب المنتشر في دول الجوار وأوروبا الغربية.  
بحسب UN Women، الجسم التابع لمنظمة الأمم المتحدة والمعنيّ بأوضاع المرأة حول العالم: في حين أن أعداد النساء بين اللاجئين السوريين حول العالم تقارب النصف، مع ذلك، فإن نسبة الذكور نسبةً إلى الإناث ممن أتوا إلى ألمانيا، وقُدروا حينذاك بأزيد من نصف مليون، قد بلغت الثلاثة أرباع، وذلك بحسب دراسة أعدّت سنة 2018.

مع تغيّر الحال خلال السنين الأخيرة، بحكم أن مزيداً من العائلات قد لُمّ شملها، لا يزال المهجر السوري منذ 2011 يتميّز بكثافة ذكورية عالية، اقتضتها مشقّة الرحلة وكلفتها، إذ يأخذ البالغون من الفتية والرجال على عاتقهم مهمة اجتياز الحدود، فتسوية أوضاعهم القانونية، ومن ثم دعوة أفراد أسرهم من نساء وأطفال إلى الالتحاق بهم، ضمن مُدد قد تراوح عادةً من سنتين إلى ثلاث. 

غير أن تلك الذكورة ذات التركيز الديمغرافي العالي ظلت تقاسي بشدّة مرارة الهجرة ومهانة اللجوء، ترزح تحت الإقامة قيدَ التسوية الإدارية لآماد طويلة، وتتلقى الصدمات الثقافية المتكررة وتعاني الغربة والأخرنة ضمن البلدان المُضيفة، التي تعيش بدورها أزمة هوية بفعل الضمور السكاني المطرد والتغيّرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة، بدأت تتجلّى في تصاعد مشاعر الضيق إزاء الهجرة وازدياد المخاوف من كثرة أعداد المهاجرين واللاجئين.  

أضف إلى ذلك، الهوّة الثقافية العميقة التي تفصل العادات الاجتماعية وأشكال الهرميّات الأسريّة والعشائرية في بلد المنشأ، خصوصاً في القرى والأرياف والحواضر الأكثر محافظة، وبين مظاهر الحياة الليبرالية في بلدان المهجر، الأمر الذي أسفر عن ميلٍ في ميزان القوة لصالح المرأة، على إثر تمكينها ومساواتها بالرجل.

المساهمون