التضخم يطحن معيشة السودانيين ويعرقل الاقتصاد.. الأعلى عالمياً

20 يوليو 2021
ارتفاع كبير في أسعار مختلف السلع (أشرف الشاذلي/فرانس برس)
+ الخط -

يبدّد التضخم مدخرات السودانيين ويقوّض موارد الاقتصاد الوطني، وسط رعب في الأسواق والشارع من التداعيات والمخاطر المترتبة على الارتفاع القياسي للتضخم، بعد أن قفزت أسعار السلع بنسبة أكثر من 400% في الفترة الأخيرة، الأمر الذي يفاقم معيشة السودانيين ويجعلها الأسوأ على مدار التاريخ، حسب مراقبين.

ويواصل الغلاء في السودان الصعود، على الرغم من أن الحكومة استفادت من إعفاءات لنسبة كبيرة من ديونها الخارجية.
وأكدت بيانات حكومية، أول من أمس، أن معدل التضخم ارتفع إلى 412.75 بالمائة خلال شهر يونيو/حزيران الماضي، بزيادة 33.96 نقطة عن شهر مايو/أيار الماضي، وهي أعلى نسبة للتضخم في العالم.

وذكر الجهاز المركزي للإحصاء (حكومي)، في بيان له، أن معدل التغير السنوي سجل زيادة في مجموعة الأغذية والمشروبات بنسبة أوصلته إلى أكثر من 249 بالمائة في شهر يونيو/حزيران الماضي. كما سجل المعدل الأساسي، بدون مجموعة الأغذية والمشروبات، أكثر من 643 بالمائة، في حين سجل معدل التضخم للسلع المستوردة في سلة المستهلك أكثر من 230 بالمائة.

الشارع يغلي
وبسبب قفزات معدل التضخم ثارت موجة غضب في الشارع السوداني بسبب الغلاء المتواصل وغير المسبوق، إذ يقول موظف قطاع خاص، محمد الطيب، لـ"العربي الجديد"، إنه خلال الشهور الماضية رأينا زيادة في السلع لم نعهدها من قبل.
ويشير إلى أن الذهاب إلى محال البقالة لشراء الاحتياجات التموينية، أصبح أمرا كارثيا، مضيفاً: "في اليوم أتجرع سم ارتفاع الأسعار مرتين". ويقول إن "زيادة الأسعار أصبحت تحدث يوميا، وفي حالات مرتين في اليوم".

ويتابع الطيب أنه يضطر إلى العمل في موقع عمل آخر مساء ليكسب مدخرات تعينه على شراء احتياجاته الأساسية. مبينا أنه يضطر إلى زيادة ساعات العمل أو العمل عن بعد لكسب نقود إضافية، ويضيف: "لكن كل ما أجمعه ينتهي عند بوابة البقالة". ما يكسبه موظف القطاع الخاص في عدة أشهر يبدده وحش التضخم والزيادة المتواصلة في أسعار السلع، حسب الطيب.
وفي نفس السياق، يؤكد صاحب بقالة جنوبي الخرطوم، حسن إسحاق، أن معدلات ارتفاع أسعار السلع أصبحت كبيرة، مشيراً إلى أن الزيادات أصبحت متوالية بصورة يصعب اللحاق بها. ويقول إن معدل تغير الأسعار أصبح مربكا لهم طباعة، وإنهم مضطرون إلى رفع الأسعار بسبب زيادة التكلفة والنقل ورفع تجّار الجملة للأسعار.

سنوات من التضخم
يعيش السودانيون تحت وطأة التضخم منذ سنوات؛ إذ ارتفع أكثر بعد عام 2011، بسبب تمويل عجز الموازنة عبر طباعة نقود جديدة، وتقليص الدعم وتعويم الجنيه، إلى أن وصل في يونيو/حزيران الماضي، إلى معدل 412.75 بالمائة خلال شهر، بزيادة قدرها 33.96 نقطة عن شهر مايو/أيار الماضي، حيث يعد هذا المعدل هو الأعلى في العالم، وهو ما يضع المواطن السوداني أمام ضغوط معيشية صعبة وموجات غلاء غير مسبوقة.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وكشفت الأرقام الرسمية أن معدلات التضخم مرت بمنحنيات تصاعدية خلال الفترة الأخيرة، إذ أظهرت نشرة يناير/كانون الثاني الإحصائية 2020 أن التضخم في السودان قفز إلى 52.37 بالمائة في يناير/كانون الثاني، من معدله 32.15 بالمائة في ديسمبر/كانون الأول 2019.
هذا الارتفاع حدث وسط زيادات في أسعار المواد الغذائية والتي أثارت اضطرابات، وسط نقص في العملات الصعبة التي يعوّل عليها الاقتصاد السوداني في تسديد قيمة المستوردات. واعتبرت نسبة التضخم لشهر يناير 2020 أعلى معدل للتضخم في عدة سنوات، ما يعني أن التالي سيكون حريق الاقتصاد مدفوعا بأوكسجين التضخم، بحسب تعبير بعض المراقبين. ثم قفزت نسبة التضخم في فبراير/شباط 2020 بصورة أكبر بلغت 71.36%، ويعود ذلك لارتفاع أسعار مجموعة الأغذية، خاصة الخبز والحبوب واللحوم والزيوت والبقوليات، حسب الجهاز المركزي للإحصاء.
ما شاهده ملايين السودانيين في يناير وفبراير 2020 كان مجرد مشاهد أولية، ففي شهر مارس/آذار 2020 ارتفع معدل التضخم بأكثر من 10.28 في المائة، ليصل إلى 81.64%. وفي إبريل/نيسان من نفس العام، سجل معدل التغيير السنوي للتضخم 98.81 في المائة. ثم تسارعت وتيرة التضخم بصورة جنونية خلال العام الجاري، لتقفز إلى أكثر من 400% الشهر الماضي.

آثار اقتصادية خطيرة
يقول المختص في الشؤون الاقتصادية، عمر محجوب، إن الذي يحدث في السودان هو "تضخم مفرط"، حيث إن الزيادة في الأسعار تجاوزت كل النسب وأصبح الجنيه بلا قيمة.

ويرى محجوب، وهو خبير في الاقتصادات الناشئة، أن هذا التضخم سيكون له انعكاس على الاقتصاد السوداني، مشيراً إلى مظاهر ذلك التأثير عبر زيادة البطالة، بسبب عجز الاقتصاد عن إيجاد فرص عمل جديدة، بينما ستنخفض الإيرادات الضريبية التي تحصّلها الحكومة، وهذا سوف يؤثر بشدة على الصرف، خاصة باب المصروفات الجارية التي لا تحتمل التأجيل.
ويرى محجوب أن الخطر الداهم سيكون في انخفاض الطلب بسبب عدم القدرة على مجاراة الأسعار في السوق، وسيؤدي ذلك إلى تدهور مستويات المعيشة بسبب تدهور قيمة العملة. ويخلص محجوب إلى أن "التضخم سوف يؤثر بشدة على مدخرات الناس، فيما يعرف بإعادة تخصيص الثروة".
ومن جانبه، يرى الخبير الاقتصادي عادل عبد العزيز، أنه حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء في السودان، فإن نسبة التضخم عالية جدا، ويطلق عليه لفظ التضخم الجامح أو الزاحف، لأنه يزحف ليؤثر سلبا على كل المؤشرات الاقتصادية الأخرى.

ويرى أن نسبة التضخم المثالية هي ما بين 1 و3%، ويمكن القبول بنسبة تضخم حتى 9% للاقتصادات الناشئة. أما إذا تجاوزت النسبة الخانة المئوية الواحدة إلى الخانتين، أي أصبحت 10% فأكثر، فإن جرس الإنذار يدق في هذه الحالة ولا بد من معالجات اقتصادية، فما بالك إذا تجاوز التضخم إلى ثلاث خانات، أي أصبح أكثر من 100%، حسب عبد العزيز؟
ويعتقد الخبير الاقتصادي أن التضخم سيؤدي إلى تآكل المدخرات ورؤوس الأموال، مشيراً إلى أن تبعات ذلك ستكون لجوء الناس إلى "مخازن القيمة"، أي السلع التي لا تتأثر بالتضخم، مثل الأراضي والعقارات والذهب والعملات الأجنبية القابلة للتحويل.
ويوضح أن ذلك سيؤدي إلى حلقة مفرغة من زيادة التضخم، ومن ثم تدني قيمة العملة السودانية وزيادة تكلفة استيراد السلع ومدخلات الإنتاج.
ولكنه يقول "إن إيقاف كسر دائرة التضخم يتطلب تدخلا قويا من الدولة، بتثبيت قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية الأخرى، وتثبيت أسعار بعض السلع الأساسية. ولا يمكن للدولة أن تفعل هذا إلا إذا كان لها فائض أو احتياطي من العملات الأجنبية تتحكم به في السعر التبادلي للعملة، أو تتحكم به في تكلفة استيراد السلع الأساسية".
وخلال الأشهر الماضية، أجرت الحكومة الانتقالية إصلاحات اقتصادية، شملت تحرير أسعار المشتقات البترولية، وتحرير سعر العملة المحلية، وإلغاء السياسات الجمركية، ورفع الدعم تدريجياً عن بعض السلع والخدمات، وإعفاء عدد من السلع الضرورية من الجمارك كلياً. وجاءت تلك الإصلاحات استجابة لوصفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وحسب مراقبين، فإن ضغوط صندوق النقد الدولي وما ترتب عليها من قرارات حكومية في السودان، ساهمت في ارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية.

وصفة لمواجهة التضخم
ويضع خبير اقتصادي أول بوزارة الاقتصاد والتخطيط السعودية، السوداني أبو بكر التجاني الحاج، "وصفة اقتصادية" بمزيج بين السياسة المالية التي تضعها وزارة المالية والسياسة النقدية التي يضعها بنك السودان المركزي.

يرى الخبير الاقتصادي عادل عبد العزيز، أنه حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء في السودان، فإن نسبة التضخم عالية جدا، ويطلق عليه لفظ التضخم الجامح أو الزاحف، لأنه يزحف ليؤثر سلبا على كل المؤشرات الاقتصادية الأخرى

 

وتتلخص الوصفة في "خفض الإنفاق الحكومي وحصره في مجالات إنتاج السلع والخدمات وإزالة الترهل الوظيفي في أجهزة الدولة المختلفة وزيادة رسوم الجمارك والضرائب على السلع الكمالية".
واقترح الحاج رفع نسبة الاحتياطي القانوني للبنوك التجارية لدى البنك المركزي، لإضعاف قدرتها على الإقراض، وحصره في مجالات الإنتاج السلعي والخدمي، وقيام النظام المصرفي ببيع أوراق مالية للجمهور، لسحب أكبر قدر ممكن من السيولة النقدية في الاقتصاد وبمعدلات فائدة مجزية. ويرى المحلل الاقتصادي هيثم محمد فتحي، أن الاقتصاد السوداني يواجه في الوقت الراهن مضاعفات عديدة تتمثل في الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الأساسية وشح العملات الأجنبية مع ندرة للوقود والخبز، مما أثر سلباً على شرائح مجتمعية واسعة.

منذ نهاية العام الماضي إلى بداية العام الحالي 2020، ظهر كأن الاقتصاد السوداني سينهض من جديد، مدفوعا بتشكيل حكومة جديدة ووعود دولية بدعم السودان


ويؤكد أن التضخم في السودان هو نتاج للطلب الفائض في القطاع العام الناتج عن ضخ السيولة التي تظهر في السحب على المكشوف بدون أي غطاء مالي. ويشير إلى أن تطبيق زيادة الأجور من دون دراسة وضع الأسواق والسلع له آثار سلبية خطيرة.

شطب الديون
منذ نهاية العام الماضي إلى بداية العام الحالي 2020، ظهر كأن الاقتصاد السوداني سينهض من جديد، مدفوعا بتشكيل حكومة جديدة ووعود دولية بدعم السودان.

وبالفعل تم شطب 14 مليار دولار من ديون السودان، ولكن الإحصائيات الرسمية كشفت عن تبخر آمال السودانيين في تحسّن معيشتهم. ووافق "نادي باريس" للدائنين على إلغاء 14 مليار دولار مستحقة على السودان، وإعادة هيكلة ما يتبقى من 23 مليار دولار، حسبما أكد رئيس النادي إيمانويل مولان، يوم الجمعة الماضي، علما أن هذه المنظمة تضم 20 دولة، بينها الولايات المتحدة وفرنسا، التي لديها ديون مستحقة مع دول أخرى تواجه صعوبات مالية. وبعد التوصل إلى اتفاق، الخميس الماضي، حض مولان، في تصريحات، الدائنين الآخرين من القطاعين العام والخاص للسودان على تخفيف أعباء البلاد من الديون بالطريقة عينها.
وبذلك، أعلن الدائنون شطب قسم كبير من ديون الدولة الأفريقية، في إطار التخفيض الكبير لديونها الخارجية التي بدأت منذ عدة أشهر للسماح بعودتها إلى الساحة الدولية، بحسب "فرانس برس".

ويندرج الإعلان ضمن عملية أوسع برعاية "صندوق النقد الدولي" تنص على تخفيف ديون السودان بأكثر من 50 مليار دولار في السنوات المقبلة، بما يقارب 90% من ديون البلاد المتراكمة أساسا خلال ولاية الرئيس السابق عمر البشير، الذي أطاحته احتجاجات أعقبها انقلاب عسكري في عام 2019.

المساهمون