نشاط رغم أنف التقاعد

11 يناير 2015
(دار الفارابي، بيروت، 2014)
+ الخط -
تربيت في أسرة فلسطينية لاجئة توقف الزمان لديها في عام 1948. فما زلت أتذكر رنين وقع كلمات أمي منذ الأربعينيات من عمرها: "خلصنا من الحياة... ما بقى بالعمر قد (بقدر) ما مضى"، لتجعلني أظن أن الشيخوخة تبدأ في منتصف الأربعينات. وعندما سافرت إلى فرنسا للدراسة، كانت أول رسالة لأصدقائي عن انطباعاتي الإيجابية والسلبية عن فرنسا تتضمن بورتريها لمدام سيرمك، صاحبة البيت الذي استأجرته، ذات الخمسة والسبعين عاما. شدني آنذاك نشاطها اليومي وحبها للحياة ومتعها وقيادتها لسيارتها وممارستها الرياضة.

أما والدي فهو من مدرسة سوداوية مشابهة لمدرسة أمي. أذكر جيدا كيف أثر عليه التقاعد من عمله في الصيدلية وشعوره بأسى كونه "لم يعد مفيدا في الحياة". لقد كانت الصدمة المعرفية الثانية التي تعرضت لها بعدها هو حديثي مع أستاذة جامعية ألمانية كنت قد التقيت بها في مؤتمر في فلورنسا بإيطاليا حيث ذكرت أنها ستتقاعد قريبا، قلت لها بسذاجة "ستكونين حزينة بالتأكيد، فماذا ستعملين؟". أكفهر وجهها وردت غاضبة: "حزينة؟ أنا الآن سأبدأ بالاستمتاع في حياتي الاجتماعية والأكاديمية".

تطرح مذكرات أستاذ علم السياسة المتقاعد الإماراتي عبد الخالق عبد الله "اعترافات أكاديمي متقاعد" نفس التساؤلات التي ارتابتني عن التقاعد والعمر الثالث (الشيخوخة) ، وكيف تحولت حياته إلى نشاط بحثي مهني واهتمام بالشأن العام والسياسات بشكل أكثر كثافة وحكمة مما كانت عليه عندما كان أستاذا في جامعة الإمارات. فقد شارك في السنة الأولى من تقاعده في مؤتمرات ومنتديات جائلا العالم بقاراته الأربع، أكثر مما قام به في العقد الأول من صباه المهني. تستحق هذه السيرة الذاتية أو الـ"اعترافات" التوقف الحميم معها، لأنها تتحدث عن حياة مفعمة بالنشاط لمثقف إماراتي صاحب رسالة ناضل من أجلها لتغيير المجتمع العربي والإماراتي ونقد بعض جوانب النظام السياسي هناك.

يتمثل عبدالله دور الباحث الذي آمن بأهمية نقل أفكاره الأكاديمية مباشرة إلى المجال العام عن طريق كتابته في الصحف، كاتبا أكثر من 350 مقالة خلال 18 سنة من حياته. كما قدم برنامج حوار سياسي على تلفزيون دبي "المشهد" والذي لم تشفع له شعبيته أمام امتعاض السلطات التي منعته. وهو أيضاً عضو نشط في مجلس دبي الثقافي، وندوة الثقافة والعلوم في دبي، وقد حصل على جائزة شخصية العام الثقافية.

تظهر شخصية عبد الخالق مركبة ومنفتحة على ثقافات عدة: ينبهر بالقيم الأخلاقية الأوروبية في الصدق والحفاظ على المواعيد، ويفاخر بالأعراف الإماراتية الكريمة، وهو معتز بالعروبة ومؤمن بقيم الإسلام السمحة. ولكن هذه التركيبة المعقدة، تضمر في ثناياها بعض التناقضات وربما المعضلات، ومن منا ليس كذلك؟

في هذا السياق، سأركز على واحدة من هذه التناقضات. فمن جهة هناك نزعة للمديح المفرط للإمارات حيث يكتب عبد الخالق عبد الله: "الإمارات هي النموذج الناجح وهي القدوة في كل شيء. أمنية الشباب العربي اليوم أن تكون دولهم على مستوى نجاح دولة الإمارات" (ص 58-59). ولعل القارئ يوافق مع الكاتب حول النجاح الاقتصادي، ولكن هل تشكل الإمارات فعلا نموذجا للاحتذاء به؟ للإجابة على هذا التساؤل دعونا نقرأ فقرة أخرى من السيرة الذاتية: "سجل الإمارات في مجال الحريات كما تقول التقارير الدولية متواضع جداً، ودولة الإمارات تأتي ضمن قائمة الدول غير الحرة في العالم وفق مؤشرات الحرية، ويمكن أن يكون وضع الحريات أفضل بكثير مما هو عليه حالياً" (ص 114).

ويسترسل الكاتب: "فالهامش لا يسمح ببروز المبدع الناقد ولا يسمح بسماع الرأي الآخر والطرح المختلف والحريص على الوطن ومستقبله. بسبب تدني هامش الحريات أصبح خطابنا الثقافي خطاباً أحادياً ومسطحاً كحدوة الحصان، كما قال الشاعر نزار قباني، تخشى من طرح الرأي الناقد الذي يعامل بالتهميش المجتمعي. نفتقد في الإمارات الحوارات الثقافية ونفتقد احتكاك الأقلام والآراء التي تولد الإضاءات وتنير الظلمة من حولنا. إن المشهد الثقافي في الإمارات رغم ما يتميز به من نشاط وزخم، إلا أنه بلون واحد، والعين تمل رؤية اللون الواحد فما بالكم بالعقل، وخصوصاً عقل الأكاديمي والباحث والمفكر والمبدع. واعتقادي أنه لن يحدث ارتقاء فكري ونهوض ثقافي يليق بالإمارات إذا استمر اللون الواحد والرأي الواحد" (ص 166 -167). لعل عبد الخالق عبد الله يضع القارئ في حيرة من أمره، فهل تمثل هذه التناقضات مشروعا واعيا أو أن ذلك ناتج عن لحظات مختلفة في مسار الكاتب المهني وبعلاقته مع المجتمع، وكما يحدث معنا جميعا؟

* أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية، بيروت
المساهمون