مثقّفون لكن قَتَلة

23 يوليو 2015
نحتاج أجيالاً تغتسل من أحقادنا والدنس العالق في قلوبنا(Getty)
+ الخط -

أكثر من أربع سنوات مرت على ما يعرف بثورات الربيع العربي وهي نفسها الفترة التي مرّت على الثورة التونسية، كانَ الفيسبوك الوسيلة الأسرع والأكثر تفاعلاً بين الناشطين ومحبي الثورة هنا وهناك، ولنكن أكثر مصداقية ونقر بأنَّ هذا (الاختراع) بشكل أو بآخر ساعد على تسريع ووصول الخبر الذي اعتادت السلطة على منعه، ووفّر مجالاً لتعدّد الصور.


وعلى الرغم من إيجابياته الكثيرة إلا أنّه حمل أسوأ ما قد يلامس الحقيقة ويقتل بعضها ألا وهو التعصب للرأي والعصبية والانحياز لطرف على حساب طرف آخر وبمغالاة كبيرة، ويبدو هذا (المرض) متلوناً ومتعدداً، وكلٌّ على اختلاف عقيدته وانتمائه وثقافاته، ويظهر هذا المرض المستشري بيننا، لنرى الشعوب في المنطقة العربية غارقة في هذا الوحل، تمارسه بفظاعة ودون أي أدنى شعور بالذنب مفسحين المجال لهذا الفضاء الأزرق بممارسة القبح وسحبه على مناحي الحياة. ما قلته ليس جلداً لذاتنا العربية وإنما هو تعرية لهذه الذات المأزومة.

السني يسبُّ الشيعي والشيعي يسبُّ السني، العربي ضدَّ الكردي والكردي يلعنُ العربي، ويتهمه بالتخلّف في حين كلاهما نتاج نفس المنطقة والعادات والثقافة، نقطة واحدة تُسكبُ عبر مربع "فيما تفكر" حتى يتحول الفضاء إلى قصف عشوائي مغمّس بالحقد والكراهية، وفي غفلة من إنسانيتهم يتناسى البعض الثورة والشعب، وأنها ثورة الكرامة، ثورة الإنسان والإنسانية، ويتحول العام إلى ما هو شخصي يبحث في عائلة الفرد ومشاكله أكثر من الانشغال بحياة أناس كثر تُباد بكل همجية.

تزدادُ رقعة الأحقاد في غياب تقبّل الآخر المختلف. والحقيقة لو حاولنا فهم الأمر، سنجد أن المشكلة تكرّست عبر الزمن وأن الحكومات هي المسؤولة عن هذا الحقد (أغلبه)، فالشيعي الذي يمسك السكين ويقطع كل ما دونه هو في الحقيقة يعيد الاعتبار لكيانه المستلَب في عهود سابقة، والكردي وهو يشتم في حقيقته يدافع عن حقه في كيان مستقل وعن دوره في حضارة يظنها حضارته، السني اليوم صار يحاول جاهداً أن يبرّئ ساحته ممّا يُلصَق به، وهكذا كل منهم على حدة يأتي بنصوصه التي تعزز موقفه وتدحض موقف الخصم (الأخ).

العرب إجمالاً وتهمة (داعش) التي يربطها بهم البعض، أصبحوا كارهين لعروبتهم وحتى إسلامهم أحياناً، كما لو أنَّ مفردتي إسلام وعرب هما سبةٌ وخطيئة، وعلينا التحلّل منهما لنكونَ أكثر قرباً من أصحاب الشعارات (المدنية).

"الطفر" الشعري أو لنقل الكتابي لم يمنع هذا السيل من الحقد، بل إن ثمة متثقافين انساقوا وراء السيل ليحمّلوا أقلامهم (رشاشاً) يطلقون منه هنا وهناك وهو في الحقيقة أمر جد خطير، فهذا الكائن الذي يُسمى مثقفاً لديه من قدرة الجذب ما يجعله مركز قوة. الكثير ينساق وراء فكرة ما فقط لأن المثقف الفلاني قالها، هي ثقة تبدو عمياء ولكنها في المطلق شرعية. المجتمعات كافة تقدّس هذا الكائن الذي يسمى مثقفاً والثقة في ما يفعل ويقول تنبع من هذا المقدس الذي يمتلكه، خاصة إذا عرفنا أنَّ مناطقنا تغيّب المؤسسات ومراكز صناعة الرأي أو التنمية البشرية بشقيها النفسي والاجتماعي. وهذا، برأيي، مردُّ الحقد الذي تعمل عليه الحكومات وتذكيه لغاية إطالة فترة الحكم بلا مسؤولية أو محاسبة من الشعب للحكومات.

اليوم عندما ننظر لألمانيا مثلاً منذ خمسين عاماً وأكثر بقليل كانت تعوم في بحر الفاشية، اليوم تعوم في بحر الحضارة والإنسانية والتمدّن، يحكمها القانون ودورة الاقتصاد، والحكومات جعلت شعبها ينشعل بالعمل والإنتاج، أوفدت له صيغ الحياة فأبدع، وهو ما يجعل ألمانيا الفاشية سابقاً تدافع عن الحياة والإنسان اليوم، وتفتح أبوابها أمام التدفّق الهائل للاجئين مثالاً: السوريون في أزمتهم التي تفوّقت على كوارث العالم مجتمعة في هذا العصر.

الحقد لا يدخل في جوهر العربي، ثقافته وتربيته الدينية تجعلانه متسامحاً ومتقبّلاً للآخر بفكرته، وما نراه هو تأجيج تمارسه السياسة وهو فعل لا أخلاقي بالتأكيد، وهنا نحن بحاجة إلى تأهيل ثقافي اجتماعي، ينهض به المثقف إذا تخلّص من لوثة السياسي، وتبنّى موقفه ورأيه ودافع عنه بشجاعة، لا أن ينقادَ خلف القطيع الذي سيأخذه ويأخذ أهله إلى التهلكة.

لا بد له من إعادة إنتاج المكوّن الثقافي والاجتماعي وحرق ما كان مغذياً للتعصب والحقد. نحتاج أجيالاً تغتسل من أحقادنا والدنس العالق في قلوبنا، أجيالاً مؤمنة بإنسانيتها بعيداً عن الألوان والأديان والاعتقادات واحترامها جميعاً كحقوق مصانة في الدساتير.

أريدُ شخصياً عندما أصافحُ أحداً ألّا أتخيّلَ أن يده المخفية خلف ظهره تحمل سكيناً، وإنما تحمل وردة.

(تونس)

المساهمون