صحافة مصر وثمن الصمت

09 مايو 2016
+ الخط -
اقتحام الأمن مقرّ نقابة الصحافيين المصريين، والقبض على صحافيين اثنين من داخله، ليس أمراً جديداً على الأداء الأمني في مصر، فقد سبق للشرطة المصرية قتل طالب في كلية هندسة القاهرة داخل الحرم الجامعي، ومصرع محام من التعذيب داخل قسم شرطة المطرية، وامتهان كرامة أطباء مستشفى المطرية. ولو أن أياً من رجال الداخلية حوسب على أبسط جريمة، أو انتهاكٍ في حق مواطن مصري، لما تجرّأ غيره على تكرار الانتهاك، بل والتعلية عليه. فانتهاك كرامة بيوت المواطنين وحرمتها من دون حساب أو عقاب، كان لا بد أن يفضي إلى انتهاك حرمة بيت الصحافيين وكرامتهم.
الجديد، هذه المرة، أن التجاوز وقع بحق من يملكون أدوات التعبير ومخاطبة الداخل والخارج. وهو ما أضفى على الأزمة بعداً رمزياً ودعائياً لعب دوراً جوهرياً في إدارة الأزمة، وسيكون المحدد الأساس في طريقة انتهائها. حيث طرفها الأول سلطة احتكارية، لا تقبل سوى بالطاعة العمياء من أي كان، ورفض الانصياع الكامل لها، تعتبره إهانة تستوجب مزيداً من التنكيل والتأديب. أما الطرف الثاني فهو فئة نخبوية تعتبر نفسها مميزةً عن بقية الفئات والنخب. حدثت المشكلة لأن طبيعة العلاقة بين الطرفين لا تزال غير متفق عليها في ظل السلطة الحالية، حيث توهم الصحافيون أن لهم حقاً على الدولة والمجتمع، بحكم مساندتهم السلطة، واضطلاعهم بمهمة الإعلام والإعلان. وتناسوا أنهم صمتوا عن الانتهاكات التي مورست سابقاً. وتعاملوا بانتقائيةٍ وتسييس مع الممارسات الأمنية، بل والقضائية أيضاً، ليس فقط تجاه الغير، لكن أيضاً تجاه الصحافيين أنفسهم. فالصمت عن التجاوز في حق صحافي يزاول عمله، أو آخر يتبنى موقفاً معارضاً، كان بمثابة ضوء أخضر، بل دعوة مفتوحةً لأن يصل الانتهاك والتجاوز إلى داخل مبنى النقابة. خصوصاً بعد غض النظر عن سن قوانين مجحفة، ثم السكوت عن التعسف في تطبيقها أو عدم الالتزام بها أساساً.
صحيح أن قانون نقابة الصحافيين المصريين يمنع دخول قوات الأمن، من دون اصطحاب مندوب قضائي، وعضو من مجلس النقابة، لكن هذه الشروط نفسها يفرضها القانون أيضاً في حالات أخرى، تشمل مقار النقابات والأحزاب، بل ومكاتب المحاماة. فضلاً عن أن القوانين تمنع، أيضاً، توقيف الصحافيين بسبب آرائهم، أو في أثناء تأديتهم عملهم. ولم تتحرك النقابة لمنع اعتقال أعضائها بالمخالفة لتلك الشروط. تماماً كما لم تنتفض لإهانة الأطباء وسحلهم، ولم تشارك المحامين غضبهم، عندما ضرب ضابط شرطة محامياً بالحذاء على رأسه.
في المقابل، لا يملك مجلس النقابة أوراق ضغط تكفل له الاستمرار في التصعيد أو تضمن تحقيق ولو جزءاً من مطالبه. فمن ناحية، يسود الوسط الصحافي انقسام داخلي وتباين بشأن العلاقة مع السلطة وطريقة إدارة الدولة. وهو ما أتاح لصحافيي السلطة التحرك المضاد، وتشكيل كيان مثير للريبة باسم "جبهة تصحيح المسار".
ستحدد الأيام القليلة المقبلة مستقبل العلاقة بين السلطة والصحافيين، وهذا أخطر ما في الأزمة، خصوصاً بعد محاولة استغلالها لتصفية حسابات وتغيير موازين القوة في الوسط الصحافي. وفي كل الأحوال، لن يحصل الصحافيون على استقالة وزير الداخلية، أو اعتذار رئاسي. وأقصى ما يمكنهم تحقيقه، الإفراج عن عدد من الصحافيين المحبوسين احتياطياً. بل على مجلس نقابة الصحافيين الاستعداد لمواجهة مزيد من الانتقادات، وفقدان تأييد قطاعات أوسع من الصحافيين بعد تلك الأزمة، ليس فقط بسبب رفع سقف المطالب، ثم التراجع. لكن، لأن الأزمة بمثابة اختبار قوة بين السلطة والصحافة. وبينما تملك السلطة قوة البطش بالأمن والقانون، لا يملك الصحافيون سوى قوة التماسك ووحدة الكلمة.. وما دام التماسك مُخترَقاً مُفتَتاً، ستبقى الكلمة مُهتزة مُشَتَتة.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.