خارج الجحيم

17 نوفمبر 2017
+ الخط -
في إحدى حصص الرّياضة الجماعيّة التي صرتُ أواظب على حضورها أخيرا، خانتني نسبة السّكّر في الدّم في المنتصف. فلم أجد بدّا من التّراجع والجلوس على مقعدٍ طويل نحيفٍ أستجمع فوقه أنفاسي، والأهمّ توازني الذي اختلّ، حتّى صرتُ بالكادِ قادرةً على الوقوف.
ثمّ، بعد مرور عدد من الدّقائق، قرّرت أنّي لن أجازف وأعود للتّمرّن، وسأكتفي بمراقبة البقيّة على بعدِ مسافةٍ ما. حينها ولأوّل مرّة منذ بداياتي في هذا الحقل، رأيتُ المشهد برمّته بعينٍ أخرى، وضحكتُ مطوّلا.
في السّابق، وخلال التّمارين، كنت منغمسة للغاية في تتبّع الحركات والحرص على الإتيان بها في توقيت المدرّبة نفسها. كنت أشعر أنّ الضّامن الوحيد لعدم إيجاد نفسي على الهامش أن أُبقيني على اتّساق زمنيّ في الحركة مع حركتها. وكان ذاكَ اتّساقا محبّبا أيضا إذ يزيدُ من الشّعور بالانتماء لتيّارٍ حركيّ، يتجاوز المستوى الرّياضيّ الفرديّ في وحدته. كنتُ أجتهدُ لفهمِ خطواتٍ أراها للتوّ وأطالب نفسي بتنفيذها في أسرع وقتٍ ممكن، ولمَ لا في الحين، وأستشيطُ غضبا في الدّاخل، إن لم أقوَ على البقاء في اللّعبة أحيانا.
إنّ مجاراة نسقٍ عالٍ كان مهمّة صعبة بالنّسبة لمبتدئة مثلي، فارقت ميادين الرّياضة منذ سنوات، والتهت لزمنٍ معتَبَرٍ عن الدّأب فيها. ولكنّي أخذت الأمر على عاتقي رهانا، كنتُ محتاجة جدّا ومتعطّشة للإنجاز الذي يُقاسُ ويُعاين في وقتٍ وجيز نسبيّا، الأمر الذي جعل مجهودي ذاك يلتهم انتباهي، ويضاعفُ شعوري بالانغماس أكثر من اللّازم.
ما حصل عندما كنت أراقب من بعيدٍ هو أنّ تلك الحركات المركّبة غَدتْ بسيطةً بشكل مدهش في عيني، عن بعد. تلك التي تعوّدَت أن تربكني في البدء أوّل ما تستجدُّ على ذاكرتي ومحاولات استيعابي.
أضف إلى ذلك أنّ تلك الوقفة أنقذت حقّا فرص التّمرين اللاّحقة، إذ سلّمتني عفويّا للبدء بالاستمتاع حقّا بما أفعل. الكلامُ سهل؛ وبديهيّ أنّي انضممت، في البداية، بدافع اصطياد المتعة والتّخلّص من مضادّاتها، لكنّ التّطبيق لم يكن متوفرا بذاك اليُسر. تستطيعُ أن تقرّر أنّك تريدُ الاسترخاء، فيقرّر الأخير بكلّ بساطةٍ أن يتمنّع عنك.
المهمّ أنّي صرت،ُ بعد تلك اللّحظة، أتحرّك تاركة العنان لبسمتي في الإرتسام. وغدت مع ذلك الحركاتُ أيسر في انطباعها مباشرة على تنفيذي لها، من دون حاجةٍ للإفراط في عجنها وتفكيكها مسبقا. كلّ ما احتجته كان الإبقاء على مسافة الأمان الفاصلة بيني وبين الحدث، من دون أن أتسرّع في الاستجابةِ لطبيعةٍ فيّ تقضي بالاهتمام الزّائد بعيشِ التّفاصيل كلّها ومنحها فائضا من الوقت والجهد.
بعدها بأيّام، تعثّرت باقتباسٍ لألبير كامو من كتابه "عشب الأيّام"، فعادت إليّ التّفاصيلُ لترتسم في ذهني مبلورةً ومختزلَة أكثر، وقد جاء فيه: "الجحيم إنّه هنا، في العيش. وحدهم أولئك الذين ينتزعون أنفسهم من الحياة يفلتون منه."
الجميلُ أنّ جملتي الإقتباسِ حاملةٌ لأكثر من معنى، وقابلة للانخراط في أكثر من سياق.. وتبقى مع ذلك محافظةً على عمقها وحكمتها. ركيزتها الأهمّ في رأيي متوقّفة على عنصر "انتزاع النّفس" قصد إنقاذها ممّا يعتريها والفوز بحفظها. لو أنّي قرأت الإقتباس، قبل الموقف الموصّف أعلاه، لاكتفيتُ ربّما باتّباع مخيّلتي، وهي تستذكر حال العيشِ في بلداننا اليوم، وقد احتدم الاختناقُ من عسر تدبّر أحوال المعيشة. حتّى صارت حياةُ كثيرين جحيما حقيقيّا، تتفاوتُ درجات هروبِهم منه، ومحاولات الإفلات. ولكنّي تبعا لما سلفَ ممّا قصصتُ، مضافا إلى تراكماتٍ سائمةٍ من لا جدوى اللّومِ وقسوته وقد جرّبته، لم أعد أقدر على رمي حمل ما يراودني من اصطلاءٍ وثوراتٍ غاضبةٍ وشعورٍ بالغرق، على المعطياتِ التي تتجاوزني فقط، فيما يحيط بي. حتّى حانت منّي التفاتةٌ واعدة.
لعلّ السّبب أنّي أصبحتُ واعيةً أكثر ربّما أنّ "الجحيم هنا" فعلا، في الدّاخل. عندما نُفرطُ في الإنغماسِ بلا تعقّل، ولا نقدر على الإفلات، إلّا متى ما جلسنا بعيدا برهةً، وارتقينا درجاتٍ من التّأمّل، تحفظ لنا توازننا الحقيقيّ، وتجعل حياتنا زيادةً رصينةً، لنا ولغيرنا.
ED740569-4C5A-48B3-8D21-461463D660A1
ED740569-4C5A-48B3-8D21-461463D660A1
آية الإسلام هنيّة (تونس)
آية الإسلام هنيّة (تونس)