08 نوفمبر 2024
المسجد الحرام رهينة
نؤمن، نحن المسلمين، بأن البيت الحرام في مكة المكرمة هو أول بيت عبادةٍ أقيم في الأرض: "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ" (آل عمران: 96). وفي الحديث الشريف الذي يرويه أبو ذر الغفاري، رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الأَقْصَى. قَالَ: قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكْتَ الصَّلاةَ فَصَلِّ، فَإِنَّمَا هُوَ مَسْجِدُكَ" (صحيحا البخاري ومسلم). والحديث في تاريخ بناء المسجد الحرام ومن وضع قواعده، سواء الملائكة أم آدم، طويل في المصادر الإسلامية. كما أن الحديث في فضائل المسجد الحرام في عقيدة المسلمين أكبر من أن يحيط بها مقالٌ سريع، كما أنها تُخْرِجُ الموضوع عن غايته. ولكن، تكفي الإشارة هنا إلى أن المسجد الحرام هو قبلة المسلمين، إليه يحنّون، وأرواحهم ومهجهم معلقة به، تصديقا لدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما ترك، بأمر ربه، زوجه هاجر ورضيعه إسماعيل في صحراء جرداء لا أحد فيها: "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (إبراهيم: 37). ومنذ ذلك الحين، وأفئدة الناس تهوي إليه، ولم يُخَيِّب ربُّ العزة جَلَّ وعلا رجاء إبراهيم، فكان أن رَزَقَ أهل البيت الحرام وبلاده الثمرات، وما هو أكثر، من ذهب أسود لا يقدر بثمن، وسياحة دينية تدرّ وحدها على المملكة العربية السعودية ما لا يقل عن عشرين مليار دولار سنويا، فضلا عن إيجاد عشرات الآلاف من الوظائف.
ومع رفع إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام قواعد البيت، وتطهيرهما إياه، كما
يخبرنا القرآن الكريم، أمر الله إبراهيم أن ينادي داعيا الناس إلى الحج إليه: "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" (الحج: 27). وفي الأثر، كما ينقل عن عطاء ومجاهد والثوري، وغيرهم، أن إبراهيم قال: "يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: ناد وعلينا البلاغ. فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجّوه. فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومَن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة". وحسب الأمر الرباني، فإن من دخل الحرم المكي فإنه آمن: "وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا" (آل عمران: 97). بمعنى أن حق زيارة المسلم له والحج إليه ودخوله آمنا أمر رباني صريح، وحق أصيل، ليس لسلطةٍ كائنا ما كانت أن تعبث فيه إن كانت تزعم أنها تؤمن بالله واليوم الآخر. بل أبعد من ذلك، فإن الله عّزَّ وَجَلَّ، يقطع مطلقا أن خدمة المسجد الحرام ورعايته والقيام عليه لا تؤهل فاعلها حق الولاية عليه، وإنما هو حق الرعاية فحسب، والتي هي تكليفٌ قبل أن تكون تشريفا. "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (التوبة: 19).
أكثر من ذلك، فإن الله عّزَّ وَجَلَّ وبلغة صريحة، لا تحتمل الشك ولا التأويل، جعل إخراج أهل المسجد الحرام منه من الكبائر: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ" (البقرة: 217). و"أهله" هنا تعود على كل مسلم مؤمن بوحدانية الله. أما القَيِّمونَ على المسجد وخدمته، فهم مكلفون بالتنظيم والرعاية والحماية وحسن الوفادة، مقابل أجر، فالمساجد الحرام الثلاثة، في مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس، هي مقدّسات للمسلمين كلهم، وملك لهم جميعا، اللهم إلا إن كان المُخاطَبُ بهذا الكلام هنا عنده مشكلة مع المرجعية الإسلامية ذاتها، فحينها يكون للنقاش وجه آخر ولغة وسياق مختلفان.
داعي التذكير السابق، وهي أولِياتٌ عند كل مسلم، هو ما نراه من انتهاكٍ لحرمة حق المسلمين في زيارة بيت الله الحرام في مكة المكرمة، ومسجد حبيبهم ونبيهم، محمد صلى الله عليه وسلم،
في المدينة المنورة. وكأنه لا يكفي المسلمين أن يكون مسجدهم الثاني من حيث البناء، وقبلتهم الأولى، وثالث حرمَيْهم، المسجد الأقصى، يئن تحت الأسر والعدوان الصهيوني. العنت الذي يواجهه الحاج القَطَرِيُّ، وغيره، هذا العام بذريعة السياسة، عدوان على أمر الله جَلَّ وعلا، وعدوان على حق المسلمين. الاختطاف الذي يتعرّض له بعض المسلمين، وهم يزورون بيت الله الحرام، حاجين أم معتمرين، كما جرى مع حجاج ليبيين، هو تحدّ مباشر لأمر الله أنّ من دخل بيته فهو آمن، وينبغي أن يعود إلى أهله ودياره آمناً سالماً. ألا يكفينا، نحن المسلمين، أننا ممنوعون، منذ قيام الدولة السعودية الحديثة، من أن نتعبد في بيت الله الحرام ومسجد نبيه بمذاهبنا المعتبرة المختلفة التي وسعت المسلمين قرونا؟ ألا يكفينا مصابنا بالهدم والتخريب الذي لحق بآثار النبي الكريم وآل بيته والصحابة الذين لم يجرؤ أحد على المسّ بها، والعبث بها منذ عهد الصحابة الكرام، إلا أن جاءنا فقه متشدّد اكتشف فجأة أن المسلمين، وعلى مدى قرون، بما في ذلك جيل الصحابة الكبار الأوائل، كانوا مخطئين مسيئين لفهم دينهم؟ ألا يكفينا كيف يُعامل الحجاج والمعتمرون وهم يزورون بيت الله الحرام ممّن يفترض فيهم أنهم قَيِّمونَ عليه بالرعاية والوفادة والسقاية والعمارة.. وبأموالنا، نحن المسلمين؟ ألا يكفي الحجاج عنت سوء الخدمات المقدمة لهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة خلال تأدية شعائر الحج؟.. ألا يكفينا ذلك كله وغيره كثير، حتى يُفرض علينا واقع جديد أن من يريد أن يزور بيت الله الحرام حاجّا أم معتمرا، أم كِلا الأمرين معا، إما أن يقوم بذلك خائفا متربصا، أو أن يذهب مُسَبِّحاً بحمد القَيِّمِ على الرعاية لا رَبّ البيت، أو أن يُمنع أصلا من أداء فريضته الدينية، لأن "الخادم" قَرَّرَ أنه فوق الإله ذاته؟ ثمَّ بعد ذلك يحدّثونك مستنكرين عن خلط الدين بالسياسة. أما تأميم الدين، ومصادرته، وانتهاك حرماته، بل وحتى تسييسهم هم له، فحلال لهم وعليهم!
ونعود إلى الآية الكريمة التي افتُتح بها هذا المقال. حيث يُروى عن عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، في سبب تسمية مكّة "بكّة"، قوله: "سُميت بكّة لأنها تبُك أعناق الجبابرة، أي تدقّها فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله". وحج مبرور وسعي مشكور لمن سُمِحَ له بالحج هذا العام، ونسأل الله أن يعوّض من مُنع ظلما، بعيدا عن الأسباب الإجرائية والتنظيمية.. أن يعوّضهم زيارة قريبة، بحيث نكون ضمن من يدخلون: "المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ" (الفتح: 27).
ومع رفع إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام قواعد البيت، وتطهيرهما إياه، كما
أكثر من ذلك، فإن الله عّزَّ وَجَلَّ وبلغة صريحة، لا تحتمل الشك ولا التأويل، جعل إخراج أهل المسجد الحرام منه من الكبائر: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ" (البقرة: 217). و"أهله" هنا تعود على كل مسلم مؤمن بوحدانية الله. أما القَيِّمونَ على المسجد وخدمته، فهم مكلفون بالتنظيم والرعاية والحماية وحسن الوفادة، مقابل أجر، فالمساجد الحرام الثلاثة، في مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس، هي مقدّسات للمسلمين كلهم، وملك لهم جميعا، اللهم إلا إن كان المُخاطَبُ بهذا الكلام هنا عنده مشكلة مع المرجعية الإسلامية ذاتها، فحينها يكون للنقاش وجه آخر ولغة وسياق مختلفان.
داعي التذكير السابق، وهي أولِياتٌ عند كل مسلم، هو ما نراه من انتهاكٍ لحرمة حق المسلمين في زيارة بيت الله الحرام في مكة المكرمة، ومسجد حبيبهم ونبيهم، محمد صلى الله عليه وسلم،
ونعود إلى الآية الكريمة التي افتُتح بها هذا المقال. حيث يُروى عن عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، في سبب تسمية مكّة "بكّة"، قوله: "سُميت بكّة لأنها تبُك أعناق الجبابرة، أي تدقّها فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله". وحج مبرور وسعي مشكور لمن سُمِحَ له بالحج هذا العام، ونسأل الله أن يعوّض من مُنع ظلما، بعيدا عن الأسباب الإجرائية والتنظيمية.. أن يعوّضهم زيارة قريبة، بحيث نكون ضمن من يدخلون: "المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ" (الفتح: 27).