القدس الغريبة.. حيث تنقبض الأرض

05 نوفمبر 2014
يشعر المقدسي بالخطر من التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال(الأناضول)
+ الخط -

تتعدد سياسات التطهير العرقي التي تنتهجها حكومة الاحتلال في القدس منذ احتلال القسم الغربي من المدينة في حرب عام 1948، والسيطرة عليها تماماً في 1967. ومنذ ذلك الوقت بدأت عمليات الأسرلة والتهويد. حوصرت مدينة السلام، حتى عزلت تماماً عن محيطها في هذه الأيام بحدودٍ وحواجزٍ وجدران، سجون وجيتوهات. تغيَّرت الكثير من ملامحها، مستوطنات تنهش جبالها وتُخلِّع حجارتها وأشجارها. غُرست أشجار مستوردة ضخمة في الأحراش التي أقيمت مكان القرى المهجرة المحيطة بزهرة المدائن، لتقضي على أي أثر من شأنه أن يدل على السكان الأصليين للمكان، وحل مكانهم؛ في بيوتهم وحدائقهم ومزارعهم، مستوطنون وقحون، استبدلوا أسماء الشوارع بأسماء غربية غريبة؛ سمحا وشمعون وشلومو. هدموا أحياء كاملةً وأعادوا تركيبها بنفس الحجارة، لكن بما يخدم رواية الغزاة الجدد، رواية قائمة على العنصرية؛ إقصاء الآخر ونفيه، حتى صارت المدينة كلها منفية وغريبة عن ذاتها.

لا فرق بين العام والخاص للفلسطيني في القدس المحتلة، خصوصية الفرد وحريته منتهكة ومراقبة، تُعريه عنصرية المحتل وهمجيته على الحواجز وفي الأزقّة، بحجة الأمن، بيته معرض للمداهمة في أي لحظة، حارات القدس القديمة جميعها، باستثناء حارة باب حطة، مراقبة بكاميرات ترصد حركة السكان على مدار الساعة. كما استحدث الاحتلال خلال الأشهر القليلة الماضية؛ وحدات مراقبة جويّة مكوَّنة من بالونات وطائرات مروحية ترصد حركة الأفراد في البلدات والقرى الواقعة في الجانب الشرقي من المدينة، والتي يغلب عليها الوجود الفلسطيني، بعد أن عزل جدار الفصل العنصري جزءاً كبيراً منها عن المدينة، كالعيزرية، أبوديس، الزعيِّم، الرام، ضاحية البريد وغيرها.. صار الوصول إلى مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، السجن الأكبر، مقترنا بطرق التفافية وحواجز عسكرية، تحولت مع مرور الوقت إلى ما يشبه المعابر الدولية، يقتضي اجتيازها ساعات طوالا من الذّل والانتظار.

الاستيطان الصهيوني يتوسَّع ويزداد في القدس يوماً بعد يوم، وبشكل منهجي ومكثف، وبشكل ظاهر وغير خفي.. الأرض تُصادر، القوانين العنصرية تُفصّل على حسب الطلب، رخص البناء للفلسطيني في مساحته الضيّقة تكاد تكون معدومة، وتُكلّفه مئات الآلاف من الدولارات لرخصة المنزل الواحد. ليجد الفلسطيني المقدسي نفسه مضطرا للبناء بدون رخصة، فيهدم البيت، ويضيع حُلم "الاستقرار" بين عشية وضحاها. يختنق المقدسي وتضيَّق المساحة عليه أكثر فأكثر، حتى يهرب إلى الضفة الغربية، يعيش حالة قلق تتعلق بسحب بطاقة الهوية، والتي هي عبارة عن ورقة إقامة في القدس الشرقية بشكل مؤقت، يحوزها من دائرة داخلية العدو وأجهزة أمنه، والتي تمنحه "امتياز" اجتياز الحواجز العسكرية المحيطة بمدينته نحو الضفة الغربية وبالعكس. هذا الخوف نابع من إدراكه العميق بأن "الاحتلال والسلطة بيشتغلوا على كمبيوتر واحد" في إشارة إلى التنسيق الأمني "المُقدّس".

الصراع مع الاحتلال دائم في القدس منذ احتلالها، والشباب المقدسي في مواجهة دائمة مع جنود الاحتلال ومستوطنيه. معالم المدينة تتغير شيئاً فشيئاً أمام عينيه. وكلّما زاد التطرف الإسرائيلي، يزداد قلقه على وجوده في المدينة. نستطيع القول إن الأحداث المتتالية التي تشهدها القدس، خاصة بعد استشهاد الفتى أبوخضير والتنكيل بجثمانه، وحوادث الدهس المتعمّد، والهجوم الوحشي للمتطرفين على العمال الفلسطينيين في الورشات والفنادق وغيرها، رفعت حدة القلق إلى أعلى درجاته. صار المشي في الشوارع والوصول أو العودة من العمل مقترنا بمخاطر قد تُكلّفه حياته أو حياة أطفاله.

ضُيِّق الحصار أكثر فأكثر على المقدسي. بات واضحاً، حتى للأطفال، أنَّ عدوهم لا يريدهم على هذه الأرض. بيتهم الكبير- المسجد الأقصى- مهدد بشكل حقيقي، الاستيلاء عليه بات مسألة وقت، الغرباء يدخلونه ونحن نمنع، ينفجر منتفضاً مرةً أخرى، يبرهن لعدوه أنّه، وبرغم تخاذل الجهات الرسمية والحزبية الفلسطينية، لن يتخلى عمّا تبقى من قُدسه. وربما تكون المشاهد الليلية في البلدة القديمة والأحياء المحيطة بالقدس خير دليل على ذلك. عندما يتوحّد الشبّان، يطفئون أنوار الشوارع فتتعطل أجهزة المراقبة، ويبسطون سيطرتهم على أحيائهم من جديد. وفي اليوم التالي تشرق شمس جديدة على عذابات مرتقبة.

المساهمون