إنه التصدير يا سادة

14 مارس 2018
زيادة التصدير تقضي على مشكلات مصر الاقتصادية(العربي الجديد)
+ الخط -
لا يمكن لعاقل أن يتصور أن يكون علاج الأمراض المزمنة موجوداً في غرف الطوارئ بالمستشفيات، ولا أن يتوقع أن يتم الشفاء الكامل من تلك الأمراض باستخدام المسكنات التي تساعد على تخفيف الألم على المريض، ثم لا يلبث أن تعاوده الآلام مرة أخرى بعد انتهاء تأثير المسكن، وبعض الأمراض لا يمكن التعامل معها إلا باتباع خطوات علاجية طويلة المدى، لا تتحقق بين يومٍ وليلة، وتكون هذه الخطوات بعيدة تماماً عن إجراءات الإسعافات الأولية، التي يضطر لها الأطباء لإنقاذ المرضى عند وصولهم لحالات حرجة، قبل أن يشرعوا في تطبيق خطوات العلاج.

لكن الحكومات المصرية المتعاقبة تصر على تجاهل الأمراض العضال التي يعاني منها الاقتصاد، وتلجأ للحلول المؤقتة في تعاملها مع أمراضٍ مزمنة، عانى منها الاقتصاد على مدار سنوات، ولم تنجح سياسة المسكنات الاقتصادية في علاجه منها. ومع تكرار ظهور المرض، واستخدام نفس الأساليب قصيرة الأجل، لا تلبث أعراض المرض أن تظهر مجددا على الاقتصاد المصري، وتكون الموارد المحدودة قد استنزفت في الإسعافات الأولية.

ويعاني الاقتصاد المصري منذ فترة طويلة من مرضٍ عضال، اسمه " العجز في ميزان المدفوعات"، ويقصد به زيادة ما ندفعه للعالم الخارجي عما نقبضه منه، من صافي عمليات التصدير والاستيراد للسلع والخدمات، وغيرها، كالسياحة والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، ورسوم العبور في قناة السويس.
ولم يُشفَ الاقتصاد المصري من هذا المرض إلا لفترات محدودة في تاريخه الحديث، وهي الفترات التي انتظمت فيها السياحة، ما بين موجات ارهابية متكررة، أو الفترات التي اجتذب فيها الاقتصاد المصري بعض الاستثمارات الأجنبية، وكان آخرها على سبيل المثال الفترة بين عامي 2005- 2010، والتي أعقبت ما أطلق عليه وقتها إصلاحاً اقتصادياً.

تسبب هذا العجز في العديد من النتائج الكارثية، كان أبرزها في السنوات الأخيرة انخفاض احتياطي النقد الأجنبي، حتى أصبح لا يغطي سوى واردات ثلاثة شهور فقط في أوقاتٍ كثيرة (قبل أن يرتفع مرة أخرى عن طريق الاقتراض الخارجي)، وهو ما أدى بدوره إلى انخفاض التصنيف الائتماني وهروب الاستثمارات الأجنبية.
كما تسبب العجز في زيادة الدين الخارجي بصورة غير مسبوقة، لدرجة وصوله إلى ما يقرب من 88 مليار دولار حالياً.
وتسبب الاقتراض الخارجي في ارتفاع عجز الموازنة العامة، كما عجز ميزان المدفوعات نفسه، حيث تلتهم فوائد الدين الخارجي وحدها سنوياً ما يقرب 4 مليارات دولار، بخلاف ما يقتطع لسداد الدين نفسه.

وتعاملت الحكومات المصرية مع هذا العجز باستخدام ما يشبه المسكنات، مرة عن طريق الاقتراض الخارجي للوفاء بالالتزامات كما يحدث حالياً، ومرة عن طريق بيع الشركات المملوكة للحكومة، كما حدث في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، ثم في مطلع الألفية الثالثة، وكما تنوي الحكومة المصرية أن تفعل الآن، حيث أعلنت الحكومة نيتها بيع كل أو جزء من مساهماتها في حوالي 20 شركة خلال العام الحالي حسب بيان صادر عن رئاسة الجمهورية يوم السبت الماضي.

ويلاحظ أن كل تلك الحلول كانت تستهدف علاج الأزمة لحظياً، أي سداد الالتزامات الواجبة، دون العمل على تجنب تكرارها في السنوات القادمة، وهو ما كان يفضي في نهاية الأمر إلى تكرار الأزمات، وبصورة أكبر في كل مرة.
لكن علاج الأمراض المزمنة لا يكون بهذه الطريقة. ولقد تعرضت الكثير من البلدان لمثل هذا المرض، ووجد أغلبها العلاج في زيادة الصادرات. فزيادة الصادرات تقضي على العجز في ميزان المدفوعات، وتمنع تفاقم الديون الخارجية، وتزيد من معدلات النمو والربحية داخل البلد المصدر، وهو ما يجذب الاستثمار إليه، فتُخلق الوظائف الجديدة، وتتحقق مستويات أعلى من عدالة توزيع الدخل، كما تُوَجه عوائد التصدير إلى زيادة الإنفاق الاستثماري على التعليم والصحة والصرف الصحي وإسكان محدودي الدخل.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، رفضت كل من ألمانيا واليابان السياسات التي تحمي الصناعات الناشئة من المنافسة الأجنبية، وعملت على زيادة صادراتها في الأسواق العالمية، من خلال سعر صرف منخفض عن قيمته الحقيقية. ورأت الدولتان أن المزيد من الصادرات سيشجع على نشر التكنولوجيا الإنتاجية والمعرفة الفنية لديهما، وهو ما حدث بالفعل.

وفي السنوات الأربعين الأخيرة عرفت دول العالم نموذجاً للتنمية الاقتصادية، أطلق عليه "النمو الذي تقوده الصادرات" Export-led growth أو استراتيجيات تنمية الصادرات للتصنيع. وهو النموذج الذي حل محل "إحلال الواردات" الذي كان يدرس في كليات الاقتصاد في مصر قبل حوالي ثلاثين عاماً، وشهد هذا النموذج رواجاً، ونجحت دولٌ كثيرة في تحقيق التنمية باستخدام الاستراتيجية الجديدة، ومنها ألمانيا واليابان، وبعض الدول في جنوب شرق آسيا.

وأمام الحكومة المصرية حالياً فرصة ذهبية لمضاعفة صادراتها الزراعية والصناعية، خاصة أن قيمة الجنيه الحالية أقل من قيمته الحقيقية، بعد أن تسبب تنفيذ قرار التعويم بصورة متهورة، في انخفاضه بشكل مبالغٍ فيه، فأصبحت السلع والمنتجات المصرية رخيصة جداً إذا قومت بالدولار، وبالتالي زادت تنافسيتها، وبقليل من حسن الإدارة والرقابة على الجودة، يمكننا تعويض ما لا نستطيع إيقافه من نزيف العملة الأجنبية، ولا نضطر إلى مزيد من الاقتراض أو التنازلات.
مصر تستطيع أن تصبح منصة للشركات الأجنبية لإقامة نقاط إنتاج، تكون مركزاً للتصنيع في المنطقة، وتغزو العالم بالصادرات منخفضة التكلفة.
وقد استخدمت الصين هذا النموذج فاكتسحت العالم بصادراتها، وكانت الشركات الأجنبية داخل الصين هي مصدر 50% من صادراتها للعالم، ولو أضفنا الشركات المشتركة Joint Venture، فإن هذه النسبة تتجاوز 70%.

هذا النموذج يساعد على خلق وظائف جديدة وينقل تكنولوجيا التصنيع المتقدمة للبلد المضيف، ولا يجوز التحجج بأنه يضر الصناعات المحلية، فيظل نزيف العملة الأجنبية مستمراً، وتنهار العملة المحلية ومعها مستويات معيشة المصريين، تحت عنوان "حماية الصناعة المحلية" وهي لا تسمن ولا تغني من جوع.

المساهمون