أين أخفقت الثورة؟!

11 مارس 2015
داعش وجدت حاضنتها هنا وليس على المريخ (Getty)
+ الخط -
مع دخول الثورة السورية عامها الخامس، بشعار رفعه المتظاهرون في ليلة رأس السنة يقول "2015 وما زلنا نريد الحرية"، يتبدى لنا كم تختزن الثورة السورية من إرادة متفائلة في وجه تشاؤم العقول، وكم هي متجذرة ومختلفة عن غيرها، رغم كل الصعوبات التي سلّطت عليها، والأخطاء التي وقعت فيها، إذ مجرد أن يرفع سوريون كلمة الحرية وسط ضجيج الإرهاب والحرب التي يشنها النظام، يعني أن ثمة سوريين لم يحيدوا عن دربهم بعد.

ولكن، هذا التفاؤل القادم من الميدان لا يمكن له أن يصل إلى بر الأمان مهما كبر وقدم من تضحيات، من دون سند العقل الذي يعمل تفكيكا ونقدا وإعادة تركيب وبحث عن ممكنات الفعل الحقيقي وسط ضجيج التفاؤل الكاذب. ولعل عدم قدرة الثورة، بعد شهور طويلة، على فتح كوة في جدار الاستبداد تدفعه نحو الرحيل أو بدء حل منصف يبين ذلك، الأمر الذي يجعل من النقد وإعادة النظر ضرورة لإخراج الثورة من بين حجري رحى الإرهاب والاستبداد، على المستوى النظري الفكري أولاً، والعملي ثانياً، على أن يكون الواقع هو مستند الفكر لا الأيديولوجيا الهابطة من فوق.

وهنا يتبدى لنا أن هناك أربع مسائل لم تولها قوى الثورة والمعارضة الأهمية التي تستحق فوصلت إلى ما وصلت إليه، وهي:

(1) بنية الاستبداد المغروس في المجتمع والمتكئ على الخارج: خلال سنوات الثورة جرى التعامل مع بنية المستبد السوري وكأنه مجرد ذبابة تقف على جلد المجتمع، إذ يكفي نزعها (رحيل النظام ورموزه الأمنية) لكي نصل إلى الحرية، في تجاهل تام إلى أن الديكتاتورية ليست مجرد أشخاص، بل هي بنى فكرية وطبقات اجتماعية ومصالح اقتصادية وقوى ضدية ومصالح إقليمية، تتضافر كلها حول الديكتاتور الذي يلعب دور الرأس أحيانا والأداة أحيانا، موظِفا ما سبق لخدمة بقائه، كما يوظفه من حوله ومن يحميه في خدمة مصالحهم.

على مدى نصف قرن، تمكنت السلطة من بناء شبكة علاقات ومصالح وقوى اجتماعية واقتصادية وطوائف وعشائر وقبائل ذات مصلحة مباشرة ببقاء الاستبداد. فوراء ستار العلمانية والقومية العربية ومحاربة الطائفية التي رفعت كشعار أيديولوجي فحسب، عملت الأجهزة الأمنية على حياكة المجتمع وفق ما تريد: طائفية كامنة محتواة (علوي/إسماعيلي، علوي/سني)، قبلية سائدة (القبائل في مناطق الجزيرة)، توتر إثني ومناطقي قابل للاشتعال في أي لحظة (عربي/كردي/ آشوري/ دروز/ وبدو)، حتى ضمن الطائفة الواحدة كان للنظام لعبته الخاصة في تفعيل الحساسيات العشائرية (حدادين وخياطين ومتاورة.. ضمن الطائفة العلوية، وكان هذا الأمر يتفعل في كل دورة انتخابية لمجلس شعب)، وريف ومدينة وعرب وشوايا.

في المسألة الاقتصادية، تحولت الدولة إلى رب عمل يمتص أكبر قدر ممكن من البطالة، الأمر الذي حوّل الموظفين إلى مجرد رعايا خاضعين يعملون كل ما أمكن للمحافظة على "رزقهم"، فتحوّلوا إلى مناصرين للنظام، ولو على مضض، في ظل غياب بديل اقتصادي. وقد رأينا كيف لعب هذا العامل دورا في الثورة حين تراجعت قدرة النظام على التوظيف، بعد الاتجاه نحو ما سمي زورا "اقتصاد السوق الاجتماعي"، لتعود السلطة وترشي المجتمع في بداية الثورة، من خلال زيادة كمية التوظيف، قبل أن تخف قدرة السلطة على احتواء الناس من هذا الباب، الذي لا يزال يدفع قطاعات كبيرة من الشعب إلى الالتحاق بقوات الدفاع الوطني التابعة للنظام أو لقوى المعارضة، لمجرد الحصول على المال أحيانا. إذا أضفنا عامل انضواء الرأسمالية المدينية في صف النظام، سندرك أن عددا هائلا من المجتمع ارتبط بالسلطة بمنفعة ستقيده عن اتخاذ قرار ضدها ما لم يتوافر له البديل الذي خنقه النظام، عبر الإفساد المتعمد الذي انتقل إلى صفوف المعارضة بسرعة قياسية من خلال تسليم القيادات لمنشقين فاسدين كانوا حتى الأمس جزءا عضويا من النظام، فالفساد هنا ذهنية نظام تفكير أكثر مما هو إجراء، وهو الفساد الذي رعاه النظام تحت شعار "الفساد في خدمة الاستبداد" لكي يصبح الجميع "مدانين تحت الطلب"، لنكون أمام جزء غير قليل من المجتمع مغرق بالجهل والفساد والتدين، وهو ما سيكون أداة النظام لضرب المجتمع ببعضه البعض مع بدء الثورة، عبر تفعيل كل ما سبق لإخافة الطوائف والقبائل وأرباب المصالح والمجتمع من بعضهم البعض، فأصبح الجميع جاهزا لحمل السلاح والذهاب نحو الأقصى للدفاع عن مصالحه أو حياته أو ما أوهمته السلطة بأنه سيفقده، الأمر الذي يعني أننا أمام نظام متجذر في المجتمع بعمق وعابر للطوائف، رغم احتكاره الطائفية، واعتماده أمنيا على مكوّن طائفي واحد، وليس مجرد لصاقة تزال بسهولة. وهذا النوع من الأنظمة لا يزال إلا تدريجيا عبر خطة تصاعدية أو بحرب أهلية ضروس، وقد لا تزيله الحرب بل تزيده تجذرا، لأنه بالأساس نظام حرب أهلية يبني استقراره على التخويف الدائم بها ويتعيش على دم ضحاياها حين تبدأ، فما بالك حين يكون مستندا إلى قوى إقليمية لا تدعمه فقط بل تحارب عنه. وهنا نصل إلى الجناح الآخر لاستراتيجية النظام في الخارج إذا اعتبرنا ما سرد فوق هو جناح استراتيجيته في الداخل، إذ لم يقرأ موقع النظام في النظام الإقليمي الدولي وطبيعة الحلف الذي يقف فيه، من حيث استناد تلك الأنظمة على بعضها البعض، بحيث إن سقوط نظام ما يعني اقتراب دائرة الخطر من الآخر، لهذا تدرك كل من إيران وروسيا أن دفاعهما عن النظام السوري هو دفاع عن أنظمتهما في الدرجة الأولى، لأن سقوط دمشق يعني سقوط طهران بعد عقد أو عقدين، كما كان خروج النظام السوري من لبنان لحظة تأسيسية لما يحصل اليوم. ولذا نحن أمام أنظمة تبني قوتها على العسف في الداخل وعلى اللعب بساحات الآخرين في الخارج، لنكون في نهاية المطاف أمام نظام محصن خارجيا إلى درجة محاربة حلفائه عنه، ومتغلغل داخليا، حد أن إزالته تعني تفكك الدولة والمجتمع، وهو ما يحصل مع الأسف.

(2) إسرائيل: إن التدقيق في مسار الثورة وأدبياتها وبيانات المعارضة سيعطي إيحاء بأن مسألة التحرر غائبة، أو أنها لم تأخذ مكانها المناسب في سياق الثورة، عبر ربط التحرر من الاحتلال الإسرائيلي بالحرية من المستبد في جدلية لا تنفصم، لأن الاستبداد والاحتلال صنوان، فهما متحالفان ضمنا في العمق، وإن تصارعا خارجا عبر بعض المعارك، وإن بقاء جبهة الجولان صامتة طيلة عقود وتصريحات رامي مخلوف بأن أمن إسرائيل من أمن سورية، وسعي إيران اليوم لامتلاك الشريط الحدودي لتقدم نفسها قوة قادرة على ضبط الحدود أكثر من النصرة والمعارضة السورية، يشي بأهمية هذا العامل الذي تعاملت معه المعارضة باستخفاف، وكأن إسرائيل غير موجودة، وهي الموجودة في كل تفصيل، وإن من خلف ستار.

أهمية هذا الأمر تكمن في قدرته على حشد الجمهور خلف المعارضة أو السلطة، لأن تحرير فلسطين والمقاومة تحوّلت اليوم إلى أيديولوجية وسلعة أكثر مما هي حقيقة، لقدرتها على كسب أنصار وحشود، عبر التجييش، ناهيك عن شيطنة الخصم وأسرلته. إن تدقيقا في خطاب السلطة ومحورها سيبين مدى وجدوى استخدام الأمر، ولنتذكر أن نكبة فلسطين وولادة إسرائيل كانت عاملا مفصليا في كل تحولات المنطقة، فهي من أطاح بحكم الكتلة الوطنية بعيد الاستقلال، وغيرت اتجاهات الرياح في مصر والأردن والعراق، وكان لها دورها في الحرب الأهلية اللبنانية وفي صياغة مستقبل البلد ووضعه اليوم، بما يعني أننا أمام عامل لا يمكن مقاربة المسألة السورية بتجاهله أو التغاضي عنه أو تركه للآخرين، إذ لا بد من استراتيجية واضحة تحدد موقفها من احتلال الجولان والقضية الفلسطينية.

(3) الطائفية والمجتمع: رغم أن الاستبداد لم يوفر جهدا لصناعة الطائفية واستخدامها طيلة سنوات حكمه، إلا أن مسألة الطائفية- كما بينت الأحداث- أعمق من النظام والاستبداد، فكونها أداة بيده لا يلغي أنها موجودة قبله، وأن كل القوى الوطنية منذ خمسينيات القرن الماضي تجاهلتها، في الوقت الذي كانت فيه المنطقة تعيش على وقع حرب أهلية صامتة منذ انهيار المشروع القومي وانتصار الثورة الإيرانية، متغذية على تراث عميق من رفض الآخر لم يزل منذ أربعة عشر قرنا يفتك بالمجتمعات. فإذا كان الاستبداد مشكلة فإن الذين يأتون من كل مكان ليقاتلوا تحت راية "علي وزينب" أو "معاوية وعائشة" هم مشكلة مزمنة سابقة على الاستبداد وستبقى بعده، مضافا لها الحاضنة التي وجدها هؤلاء في بيئات المعارضة أو الموالاة، فالخارج لا يفعل فعله إلا من موقع الداخل نفسه، وسيبقى هذا الداخل عاملا مساعدا للاستبداد والحروب الأهلية، ما لم يجد الإصلاح الديني طريقه إلى المنطقة، فداعش وجدت حاضنتها هنا وليس على المريخ، الأمر الذي يحتم وجود رؤية تربط بين إزالة الاستبداد والإصلاح الديني، والعمل على المجتمعات التي لا يزال قسم كبير من وعيها ما دون وطني للأسف.

(4) قوى إقليمية مع الثورة: لم تدرك قوى الثورة والمعارضة أن القضية الأخلاقية والحرية هي آخر اهتمامات القوى الإقليمية التي وقفت إلى جانبها ومدتها بالمال والسلاح، فكما أن إيران وروسيا تبحثان عن مصالحهما، فلتلك الدول مصالحها التي لن تضحي بها لأجل الثورة أو النظام، الأمر الذي عنى أن غياب قوة فاعلة ذات رؤية قادرة على فرض إرادة الثورة حتى على الحلفاء أدى إلى أن تصبح الثورة وقواها موزعة ومشتتة وتخضع لأجندة الآخر الحليف أكثر مما تخضع لأجندة الثورة نفسها، إذ ثمة فرقا بين أن تكون حليفا أو تابعا، لأن لحظة افتراق المصالح ستأتي عاجلا أم آجلا، وحينها ستجد الثورة نفسها في العراء، إن لم تكن راكمت قوى ذاتية تضمن استمرارها.

إن أرادت قوى الثورة والمعارضة أن تجتاز عنق الزجاجة الذي ترقد فيه اليوم، عليها أن تبدأ بمراجعة كل مسارها بشكل موسّع لوضع استراتيجية بعيدة المدى وليست أنية فحسب، تبدأ من ساحة المعركة لمواجهة الاستبداد والإرهاب في آن، ولا تنتهي عند العمل على المجتمع وافتراض أنه بريء وواحد، فهو مجتمع فيه الصحيح وفيه المريض الطائفي القابل للتطرف مثل أي مجتمع آخر، والبحث عن البدائل المتاحة في حال توقفت الحرب لمواصلة المعركة سياسيا، لأن الاستبداد لا يسقط لمجرد أن يرحل رأس النظام كما علمتنا تجارب مصر وتونس واليمن وليبيا، مع ضرورة إيلاء التراكم السياسي والنضالي أهمية قصوى، وهو أحد الأشياء الهامة أيضا الغائبة عن الثورة والمعارضة، إذ يبدو كل فعل يعلو فجأة ليسقط فجأة ويعاد البناء من جديد بدلا من المراكمة عليه، الأمر الذي يهدر جهودا ثمينة ووقتا ضائعا مدفوعا من دم السوريين الذين يواصلون دربهم بإرادة متفائلة لا تكفي ما لم تقرن بعقل يوظفها في سياق صحيح.


(سورية)

المساهمون